(قِراءَةٌ في كِتابِ «عَلَّمَتنا الحَياة» لِلإِعلامِيِّ الأَدِيبِ جُورج طرابُلسِي)
«عَلَّمَتنا الحَياة»
عُنوانٌ عَرِيضٌ لِمَضمُونٍ يَرسُمُ تَفصِيلًا ثَرِيًّا مِمَّا تُعَلِّمُهُ الحَياة. فَفِي كُلِّ حَنِيَّةٍ مِن بِنائِها، وكُلِّ مُنعَرَجٍ في دُرُوبِها أَماثِيلُ لِمَن أُوتِيَ بَصِيرَةً تَلِجُ الأَعماق.
تَطوِينا الأَحداثُ، ثُمَّ نَطوِيها ونَمْضِي، ولكِنَّ اللَّبِيبَ مَن لا يَترُكُ عِبَرَها تَمضِي وهو غافِلٌ يَكتَوِي بِجِمارِها مِرارًا ولا يَفطَنُ لِلماءِ يَجرِي بَينَ يَدَيه.
﴿عَلَّمَ الإِنسانَ ما لم يَعلَم﴾(1).
كُلٌّ لَهُ باعٌ في المَعرِفَةِ واختِباراتِ الدَّهرِ، يَتَفاوَتُ بَينَ امْرِئٍ وأَخِيهِ، ولكِنَّنا، كُلَّنا، نَقصُرُ عن بُلُوغِ الأَمَدِ في العِلمِ، فَأَمَدُهُ الحَياةُ وتَلَوُّناتُها. فَــ «لا “يَصِلُ” إِلَّا كُلُّ مَن خارَت عَزِيمَتُه فَخَدَعَ نَفسَه بِأَن أَشارَ إلى هَدَفِه حَيثُ عَيَّت قَدَماه» كما أَفادَنا سَعِيد تَقِيِّ الدِّين.
فَإِمَّا أُتِيحُ لَنا أَن نَتَأَمَّلَ في تَجارِب النَّاسِ، فَلا نَتَباطَأَنَّ وباتَت طَرِيدَتُنا السَّمِينَةُ في المَرْمَى. أَلَيسَ الإِنسانُ «كِتابًا خَطَّهُ الله»(2)، يَجدُرُ بِنا الغَرْفُ مِن كُنُوزِهِ الكَمِينَة؟!
هذا ما أَسْداناهُ صَدِيقُنا جَورج طرابُلسِي. فَلَهُ عَمِيقُ الامْتِنان!
***
ما مِن جُهْدٍ أَدَبِيٍّ أَو فِكرِيٍّ يَدخُلُ المِطبَعَةَ ويَخرُجُ إِلى النُّورِ مُعافًى، مُشِعًّا في كِتابٍ إِلَّا بَعدَ لَيالٍ مِنَ السَّهَرِ الطَّوِيلِ، ونَهاراتٍ مِنَ المُكابَدَةِ المُتَواصِلَة.
صَدِيقُنا
في مُستَهَلِّهِ لِلكِتابِ أَوجَزَ لَنا مَنظُورَهُ الفِكرِيَّ الرَّاقِيَ، فَتَنَصَّتْنا لِصَدَى رُوحِهِ في الكَلِمات. وعَمَلُهُ الجَلِيلُ في جَمْعِ شَتاتِ الخِبرَةِ مِن أَفواهِ لِفِيفٍ كَبِيرٍ هو شَهادَةٌ على أَنَّ الحَياةَ عَلَّمَتهُ أَن يَجمَعَ مِن بَيادِرِها المُنداحَةِ سَنابِلَ المَعرِفَةِ المُكتَنِزَةِ، لَيسَ لِيَحبِسَها في كُواراتِهِ، بل لِيُوَزِّعَها على قُرَّائِهِ عَطاءً يَفُوحُ مِنهُ التَّفانِي والمَحَبَّةُ والفَرَح.
لَم يَتَوانَ في تَتَبُّعِهِ لِدَقائِقِ عَمَلِهِ، وحَسْبُهُ تَواصُلٌ مع ما نافَ على المِئَاتِ الثَّلاثِ مِن صُنَّاعِ الحَرْفِ والأَلوانِ، يَسأَلُهُم ويَتَلَقَّى مِنهُم، ثُمَّ يَرُوحُ يُنَسِّقُ غِلالَهُ فَيُخرِجُها في حُلَّةٍ فَنِّيَّةٍ لائِقَةٍ، وهو المَشهُودُ له في هذا المِضمارِ، مُتَجَلِّيًا في ما يَنشُرُهُ في مُدَوَّنَتِهِ الغَرَّاءِ «aleph-lam».
بِحِذْقِ الصِّحافِيِّ الَّذي يَسبُرُ الغَوْرَ، وحِسِّ الأَدِيبِ الَّذي يَتَلَمَّسُ الحُسْنَ في ثَنايا اللَّوحَةِ المُنبَسِطَةِ، شاءَ أَن يَقطِفَ مِن عابِرِينَ ما زالُوا يَغُذُّونَ السَّيرَ ويَكدَحُونَ، فَجاءَ عَمَلُهُ آيَةً في العَطاءِ، وذُخْرًا يُصانُ ويُرْجَعُ إلَيهِ، ومُجَلَّدًا شامِخًا تَزهُو بِه المَكتَبات!
***
أَلحَياةُ حَرَكَةٌ دائِمَةٌ، وتَنَوُّعٌ مُطَّرِد. فَلا لَونَ ثابِتًا لَها، ولا تُنبِتُ أَحداثًا تَتَرَدَّدُ، مُتَشابِهَةً، مِن جِيلٍ لِجِيل. بَل هي تُفاجِئُ الخَلْقَ بِما لَيسَ في حِسبانِهِم، وكَثِيرًا ما تَصدِمُهُم بِما لا يَرتَقِبُون. هي بُستانٌ فِيهِ الوَردَةُ وأَشواكُها، والثَّمَرَةُ وضَنَى إِخراجِها مِن بِذْرَةٍ جافَّةٍ إِلى حِضْنِ الشَّمسِ الدَّافِئِ، وعُذُوبَةِ الماءِ السَّلسَبِيل.
وَ «الحَياةُ كَدِلاءِ النَّواعِيرِ، إِنْ فَرَغَ أَحَدُها امتَلَأَ الآخَرُ، وهكذا دَوالَيْك»، كما قالَ مارُون عَبُّود.
لِذا فَابتِداعُ حُلُولٍ ووَصْفاتٍ جاهِزَةٍ لِلمُشكِلاتِ ضَرْبٌ مِنَ الوَهْمِ المُخَيِّبِ، والمَعاضِلُ ما كانت يَومًا مُقَولَبَةً مُعَلَّبَة. وذلك لِأَنَّ الفَردَ خاضِعٌ لِلعَقْدِ الاجتِماعِيِّ، مُتَفاعِلٌ مع الغَيْرِ، ومُنْفَعِلٌ بِظُرُوفٍ تَخرُجُ، أَحيانًا، عن إِرادَتِهِ، وقد تَقلِبُ مَسارَهُ فَإِذا شَرَّقَ يَجِدُ نَفسَهُ مُغَرِّبًا، والدُّنيا في دَوَرانِها لا تَعِي بِه ولا تَأْسَى. فَنَحنُ إِزاءَ مَجهُولٍ مُتَرَبِّصٍ أَبَدًا، وعلى ما أُتِيحَ لَنا مِن حِكْمَةٍ، نَنتَزِعُ مِنِ اختِباراتِنا عِبَرًا، ونَستَنِيرُ مِمَّا قَضَّ طُمَأنِينَتَنا، أَو أَسبَغَ عَلَينا الهَناء.
ويَكفِي أَن نَتَعَلَّمَ أُقنُومًا واحِدًا مِن سِفْرِها الأَثمَنِ وهو المَحَبَّةُ الصَّافِيَةُ الَّتي لا يَشُوبُها حَسَدٌ، ولا يُلَطِّخُها حِقْدٌ، حَتَّى نَكُونَ نِلْنا كَنْزَها الأَغلَى، وسَمَونا على الصَّغائِرِ، وبِتْنا في دائِرَةِ النُّوْرِ الأَعلَى الَّذِي دَعانا إِلَيهِ سَيِّدُ الوُجُودِ: «أَحِبُّوا أَعداءَكُم، بارِكُوا لاعِنِيكُم، أَحسِنُوا إِلى مُبغِضِيكُم، وصَلُّوا لِأَجلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيكُم ويَطرُدُونَكُم(3)».
ونَحنُ، أَبناءَ هذِهِ الأَرضِ العَرَبِيَّةِ، لَو تَعَلَّمنا مَلِيًّا مِن دُرُوسِ الحَياةِ، ومِن سَقَطاتِ السَّلَفِ مَدَّ العُصُورِ، لَما صَحَّ فِينا قَولُ سَعِيد تَقِيِّ الدِّين: «حَضارَتُنا، في كُلِّ بَيتٍ بارُودَةٌ وليسَ في كُلِّ بَيتٍ مَكتَبَة». وَلَكُنَّا احتَلَلْنا المَكانَ المَرمُوقَ في مَحافِلِ الأُمَمِ، وفي الأَزَماتِ الكِبار!
***
ماذا يَجنِي القارِئُ مِن هذا الكِتابِ، ثَقِيفًا كان، أَم على هامِشِ الثَّقافَة؟!
أَلحَصادُ وَفِيرٌ مِن تَجارِبَ مُصَفَّاةٍ لِعَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ النَّاسِ، واقتِباساتٍ مِن عِلْيَةِ المُفَكِّرِينَ العالَمِيِّينَ، مُضْمَرَةٍ في ما يُعرَضُ على أَنَّهُ دَرْسٌ مُكتَسَبٌ ذاتِيًّا، أَو تَناصٌّ حَيثُ إِنَّ «الحافِرَ قد يَقَعُ على مَوضِعِ الحافِرِ»(4) في جادَّةِ الحَياة. وكذا تَساءَلَت مُقَدِّمَةُ الكِتابِ الأَدِيبَةُ الدُّكتُورَة ناتالِي الخُورِي غَرِيب: «هل تجسّد هذه المشاركات التأمّليّة اختبارًا وجدانيًّا وفكريًّا حقيقيّين ناتجين عن احتكاك بالواقع سبقت تأمّلات حثيثة أنتجته، أم هي مجرّد لحظات في صفوة التأمّل، بعيدة عن إمكانات تحقّقها؟» (ص 8)، ثُمَّ انتَقَلَت إِلى التَّأكِيدِ أَنَّ: «ثمّة ظاهرتان تشيران إلى ضرورة التوقُّف عندهما في هذه النصوص، وهي ظاهرة الاقتباس من أجل تمجيد القيم، وظاهرة الكفاح في مقابل التسليم أو العكس» (ص 11).
كما طَغَت شاعِرِيَّةُ القَوْلِ، وشَطْحاتُ الخَيالِ على بَعضِ المَطْرُوحِ، ما أَخرَجَها مِن حَلْبَةِ التَّجرِبَةِ الصِّرْفِ، وجَعَلَت مِنها أُنشُودَةً تَلَذُّ، ولكِنَّها لا تَعبُرُ بِالقارِئِ إِلى جَنَّةِ العِبْرَةِ؛ وما هي إِلَّا «تَجرِبُةٌ» في الإِنشاءِ الأَدَبِيِّ، وتَسطِيرِ الأَمانِي والأَحلام.
وعلى غَمْرِ الإِفصاحاتِ الَّتي غاصَت في سُيُولِ التَّنظِيرِ والإِرشادِ والحِكَمِ المَنثُورَةِ، مُتَّكِئَةً على ما خَزَنَتهُ الذِّاكِرَةُ مِن اكتِساباتِ المُطالَعَةِ، تَبرُزُ تَجارِبُ حَيَّةٌ تَروِي بِاللُّهاثِ المَسفُوحِ (ص 344)، وأُخَرٌ تَنضَحُ بِصَراحَةٍ نادِرَةٍ، فَنَقرَأ : «عَلَّمَتنِي الحَياةُ ارتِكابَ الأَخطاءِ الجَمِيلَةِ، والتَّمَتُّعَ بِالمَمنُوعِ، والتَّساهُلَ مع الحَواسِّ، والانغِماسَ في لَذَّةِ الوُجُود» (ص311)، وهذا النَّوعُ مِنَ الاعتِرافِ المُشرَعِ هو مِن مَعدِنِ الصِّدقِ مع الذَّاتِ، والجُرأَةِ في مُواجَهَةِ الأَعرافِ، والتَّحَدِّي. أَوَلَيسَ في طِباعِنا أَنْ نَتَلَفَّعَ بِقِناعٍ (persona) يَستُرُ ما لا نُرِيدُ كَشْفَهُ، ويُجَمِّلُ ما نَتُوقُ إِلَيه؟! وهذا ما ظَهَرَ في كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي تَصُبُّ في «يُوتُوبيا» تَعكِسُ نَزْعَةً فِطْرِيَّةً عند كُلٍّ إِلى التَّنَصُّلِ مِنَ السَّقَطاتِ، وتَبيِيضِ الصُّورَةِ، والتَّشَبُّثِ بِالانجازاتِ، أَو التَّلَطِّي وَراءَ ما اتَّفَقَت عليه الجَماعَةُ حَقًّا وخَيْرًا وجَمالًا.
والجَسُورُ مَن يَسِيرُ بِالوَجهِ العارِي الَّذِي وَهَبَتهُ إِيَّاهُ الحَياةُ، غَيرَ عابِئٍ بِعَذْلٍ أَو إِقصاء.
وتَجارِبُ الآخَرِينَ، الَّتِي حَظِينا بِها، لِمَن يُحسِنُ قِراءَتَها، اشتِيارَ عَسَلِها ومُجانَبَةَ حَنظَلِها، هي سِلاحٌ ماضٍ في مُواجَهَةِ الحَياةِ وتَقَلُّباتِها ومُفاجَآتِها. وحَسبُها أَنَّها تَقْرَعُ صُدُورَ المُتَفَكِّرِينَ قَرَعاتٍ تَتَوالَى حَتَّى تُحَطِّمَ أَصنامَ الأَهواءِ الَّتي، إِنْ أَزْمَنَت، تُصبِحُ طَقْسًا يَتَحَكَّمُ بِالحَياة.
ونُرسِلُها بَسْمَةً في السِّياقِ فَنَقُول: إِذا اعتَبَرنا أَنَّ ما قِيْلَ على لِسانِ كُلِّ مُساهِمٍ في النُّصُوصِ إِنَّهُ «تَعَلُّمٌ» قد فَعَلَ فِعْلَهُ في خُلُقِ هذا «المُتَعَلِّمِ»، فَإِنَّنا نَأمَلُ بِمُجتَمَعٍ زُرِعَت فِيهِ الخَمائِرُ الصَّالِحَةُ الَّتِي لا بُدَّ أَنْ تَعمَلَ في عَجِينِ البِيئَةِ فَيَنتَفِخَ ونَحظَى بِرُغفانِ العافِيَةِ على مَوائِدِ وَطَنٍ مَزَّقَتهُ المَفاسِدُ، وأَرهَقَهُ الجَهْل…
ثُمَّ أَلَيسَ مِنَ الغِنَى أَن يُتاحَ لنا، بِأَيسَرِ سَبِيلٍ، أَن نَرَى ونَتَفَحَّصَ حَيَواتِ المِئَاتِ مُكَثَّفَةً في صُوَرٍ مُنتَقاةِ لِعُصْبَةٍ تَعَدَّدَت مَزاياهُم، وتَنَوَّعَت مَشارِبُهُم، وطَبَعَتهُم تَقالِيدُ مُتَمايِزَةٌ أَو مُتَآلِفَة؟!
أَمَّا اللُّغاتُ الَّتِي حَبَّرَتِ الرِّقاعَ فَمَعرَضٌ على جُدرانِهِ تَنَوَّعَتِ اللَّوحاتُ، وتَفَنَّنَ في إِخراجِها مَن شاءَها أَن تَكُونَ زِينَةَ المِهرَجان.
وكاتِبُنا كان صَيَّادًا ماهِرًا في قَنْصِ الطَّرائِدِ السِّمانِ مِن قَوْمٍ مُتَنَوِّرِين. لَكَأَنِّي بِهِ مِن حَوارِيِّي الخَلِيفَةِ عُمَرَ بِنِ عَبدِ العَزِيزِ الَّذِي أَفصَحَ: «فَتَّشتُ فَلَم أَجِد أَلَذَّ مِنَ النَّظَرِ فِي عُقُولِ الرِّجَال».
كما كانَ مُنْصِفًا صادِقًا إِذ نَوَّعَ مَرامِيَهُ إِلى شَرائِحِ المَلَإِ كافَّةً، والبِيئَاتِ المُتَبايِنَةِ مُدرِكًا أَنَّ كُلَّ مَن هُم في مَرحَلَةٍ مِن العُمْرِ مُعَيَّنَةٍ لَهُم مَفاهِيمُهُمُ الخاصَّةُ الَّتِي تَتَأَثَّرُ بِمَقدِرَةِ الاستِيعابِ وقِراءَةِ الأَحداثِ، وأَنَّ البِيئَةَ لَها في طِباعِ البَشَرِ وشْمُها الَّذي لا يُمْحَى. ومَنِ انتَقاهُم هُم مَنِ استَلُّوا مِنَ الحَياةِ رَحِيقَها، وعادُوا مِن مِشوارِها بِلُقُياتٍ، بَعدَ أَن جَرَّحَت جُلُودَهُم، وتَرَكَت نُدُوبَها في وَجَناتِهِمِ الصِّباح.
هذا المُصَنَّفُ يَزِيدُ نُضْجَ المُتَعَطِّشِ إِلى الاستِزادَةِ مِن خِبْرَتِهِ الحَياتِيَّةِ، ويُحَفِّزُ تَفاعُلَهُ مع أَفكارٍ جَدِيدَةٍ، أَو يُثِيرُ لَدَيهِ حِسَّ النَّقْدِ لِطُرُوحاتٍ لا تَتَواءَمُ مع قِوامِهِ الخُلُقِيِّ وما طَبَعَهُ العُمرُ فِيه.
إِذًا فَالجَنَى مُتاحٌ، وَ «البِساطُ أَحمَدِيٌّ»، وضُرُوبُ الأَطايِبِ تُسِيلُ اللُّعابَ، والجَدْوَى تَعظُمُ بِقَدْرِ ما تُرافِقُ العِبْرَةُ المُتَلَقِّيَ في طُرُقاتِهِ المُتَشَعِّبَة. وهَنِيئًا لِمَن يَحتَضِنُها في الجَوارِحِ زادَ خَيْرٍ، وعَوْنًا في الحُلْكات!
***
عِندَما يَتَخَطَّرُ القَلَمُ على الصَّحِيفَةِ يَنسَرِبُ في خُطُوطِهِ شَيءٌ مِن طَبْعِ الكاتِبِ وما تَمَرَّسَ به في حَياتِهِ، أَكانَ ذلك بِقَصْدٍ مِنهُ أَم لا. والكِتابَةُ سِمَةٌ في الكاتِبِ، تُفشِي مِن دَواخِلِهِ، حَتَّى ولَو شاءَ الكِتمانَ، لَكَأَنَّها «مِقياسُ بُوفُور»(5) يُمَرِّرُ في دَرَجاتِهِ رُؤَى المَلَإِ وتَحَسُّساتِهِم.
صاحِبُنا أَرانا، في عَرضِهِ هذا، الكَثِيرَ مِن تَلاوِينِ مُجتَمَعِنا وبِيئَتِنا بِتَقالِيدِها ومُعتَقَداتِها، فَفِي المِدادِ عَبِيرٌ مِمَّن يَمُدُّه. إِنَّها باقَةٌ خَيِّرَةٌ اصطَفاها، وعلى القارِئِ أَن يَنتَقِي مِنها الزُّهَيراتِ، يَضُمُّها في أَكمامِهِ أَنِيسًا لَهُ في الطُّرُقات!
***
صَدِيقَنا
في بالِكَ كان، حُلْمًا وَرْدِيًّا، أَعاقَتهُ سَنَواتٌ عِجافٌ في ظُرُوفٍ ضاغِطَة. وهاكَ، اليَومَ، تَرفَعُهُ في وَجهِ الشَّمسِ، كِتابًا أَعمَلْتَ فِيهِ أَرياشَ مَن قَطَفُوا مِنَ الحَياةِ ثَمَرًا ناضِجًا ثَمِينًا، فَوَضَعُوا مِنهُ في سَلَّتِكَ المَمدُودَةِ ما لَذَّ وطاب.
في حَصِيلَةِ جَولَتِنا النَّاجِعَةِ الماتِعَةِ وَجَدنا أَنَّ مِحْوَرَ ما عَلَّمَتهُ الحَياةُ لِلمُشارِكِينَ هو «المَحَبَّة». فَحَبَّذا أَنْ تَكُونَ فَعَّالَّةً راسِخَةً في مَنْ دَبَّجُوا – كما نَعهَدُها في مُعِدِّ هذا العَمَلِ – لِتَكُونَ بِذارَ خَلاصٍ، ورِيًّا، في تُرْبَةٍ شَقَّقَها جَفافُ النُّفُوسِ لِوَطَنٍ بَلَغَ بِهِ النَّزْفُ النَّزْع. وعِندَها يَرفَعُ كُلٌّ لِواءً طالَما تَغَنَّينا بِهِ لِشَيْخِ المُتَصَوِّفِينَ الإِمام مُحْيِي الدِّيْنِ بْنِ العَرَبِي:
أَدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَت رَكائِبُهُ فَالحُبُّ دِينِي وإِيمانِي!
***
قالَ الإِمامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالِب: «إِضرِبْ رَأيَكَ بِرَأيِ غَيرِكَ يَتَوَلَّد الصَّواب».
فَيا أَيُّها الصَّدِيقُ الَّذِي لا يَفتُرُ ولا يَكِلّ… لَقَد وَضَعتَنا في رَحًى وَطِيسُها حامٍ، فَرُحْنا نَضْرِبُ آراءَنا بِآراءٍ كَثِيرَةٍ رَصِينَةٍ، فَبَدَأْنا نَتَلَمَّسُ الصَّوابَ، ونُصَحِّحُ بَعْضًا مِن مُعتَقَداتِنا، فَنِعْما المُنَقِّبُ أَنت.
ثُمَّ إِنَّنا مَلَأْنا خِراجَنا مِن كَرْمِكَ السَّخِيِّ، وهو «كَرْمٌ على دَرْبٍ»، فَلَذَذْنا وشَبِعْنا.
أَطالَ اللهُ عُمرَكَ، وأَغزَرَ حِبْرَكَ، لكي تَرفِدَنا بِإِخوَةٍ لِمَولُودِكَ الجَدِيدِ، فَنَنعَمَ بِما تَجُودُ بِهِ أَقلامُ مُحِيطِنا العَرَبِيِّ الأَوسَعِ، ثُمَّ جُمْلَةِ الكُرَةِ الزَّرقاء!
***
(1): ﴿عَلَّمَ الإِنسانَ ما لَم يَعلَم﴾ (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ العَلَق، الآيات مِن 1 إِلى 8)
(2): «كُلُّ إِنسانٍ هُو كِتابٌ خَطَّهُ الله» (فيكتور هوغو)
«Tout home est un livre où Dieu lui-même écrit» (Victor Hugo)
(3): سَمِعْتُم أَنَّهُ قِيْلَ: أَحِبَّ قَرِيْبَكَ وَأَبْغِضْ عَدُوَّك. أَمَّا أَنَا فَأَقُوْلُ لَكُم: أَحِبُّوا أَعداءَكُم، بارِكُوا لاعِنِيكُم، أَحسِنُوا إِلى مُبغِضِيكُم، وصَلُّوا لِأَجلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيكُم ويَطرُدُونَكُم، فَتَكُونُوا أَبناءَ أَبِيكُمُ الَّذِي في السَّماوات.
(إِنْجِيْل مَتَّى – 5: 43، 44)
(4):«الشِعرُ جادَّةٌ، وَرُبَّما وَقَعَ الحافِرُ على مَوضِعِ الحافِر» (المُتَنَبِّي)
(5): Échelle de Beaufort
Échelle codée de 0 à 12 degrés, utilizée pour mesurer la force du vent.