في كتاب جديد يصدر من أفكار اغترابيّة للأدب الراقي تتناول الأديبة كلود ناصيف حرب روايات الدكتور جميل الدويهي الأربع اخترنا من الكتاب ص 82-86، ما كتبته الأديبة حرب عن رواية “حدث في أيّام الجوع”، حيث تقارن بين سلمى في رواية الدويهي، ووردة الهاني في “الأرواح المتمرّدة” لجبران خليل جبران، وتتحدّث عن المضمون الاجتماعيّ للرواية والمنحى الإبداعي المتداخل مع الواقعيّة:
*القنديل والخبز رمزان لحالة لا ينكرها أحد…
*الدويهي رائد المؤرّخين، من خلال الأدب الروائيّ، عن حقبة من الحقب السوداء في تاريخ بلاده.
*يحلّق في سماء الفكر والأدب، رفيع الجناحين، عالي الهمّة، حيث لا تجرؤ الطيور على التحليق.
***
إنّ مأساة الفتاة سلمى في رواية “حدث في أيّام الجوع” لا تقتصر على تزويجها من رجل لا تحبّه، ولكن بسبب جشعه، وجريمته الكبرى التي ارتكبها بحقّها، عندما أخذ يبيعها لرجال مقابل حفنة من المال، ففرّط بكرامتها وشرفها. كلّ ذلك في جوّ اجتماعيّ ومعيشيّ ضاغط.
إنّ مأساة المرأة مع زوجها في رواية الدويهي لا تختلف كثيراً عن مأساة وردة الهاني في “الأرواح المتمرّدة” لجبران خليل جبران، حيث تقول وردة: “صرت شريفة وأمينة لأنّني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيّامي بالملابس” (جبران، جبران خليل: الأرواح المتمرّدة، دار العرب للبستاني، القاهرة، 29). ولنكن صادقين، فظروف سلمى في رواية الدويهي تختلف عن الظروف التي عاشتها وردة الهاني، فالأولى عاشت في زمن الجوع، واضطرّت أمّها، تحت ضغط الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة إلى بيعها لرجل فقير، يعيش في غرفة من التنك عند شاطئ البحر. فالدراهم القليلة التي حصلت عليها الأمّ لم تكن ثروة، بل كانت وسيلة لإخراج ابنتها من المنزل، والاستغناء عنها لصالح رجل قد يعيلها ويزيح همّها عن الوالدة الأرملة. أمّا وردة الهاني، فقد عاشت في مجتمع مخمليّ، وليس في القصّة الجبرانيّة ما يشير إلى أنّها تزوّجت قسراً، ولكنّ المتابع للقصّة يعرف أنّها زُفّت إلى رجل غنيّ، عنده القصور والمال والرفاهيّة، ولم تجد السعادة عنده، فتركته ومضت مع رجل آخر. وسلمى لم تهرب من كوخ زوجها المتداعي، بل قتلته دفاعاً عن نفسها وعن شرفها المهدور على أعتاب الرجال من أصدقائه.
وعندما يعنون الدويهي الجزء الأخير من قصّته بعنوان “القنديل”، فإنّه يرمز إلى حالة لا يجهلها أحد، وهي انقطاع الكهرباء في لبنان، حتّى أصبح ظهورها من عجائب القدّيسين، فلجأ الناس إلى الشموع، ومحارق الزيت، والقناديل التي كانت تُعتبر من الآثار، فبرزت من جديد في صدور المنازل، وعمد الكثيرون ممّن لديهم قدرة شرائيّة إلى الطاقة الشمسيّة والبطّاريّات، للهروب من ظلمة مفروضة عليهم، إلى نور يستعيرونه بأيّ طريقة ممكنة.
كما في القصّة الدويهيّة تركيز على الخبز والطحين، ففي لبنان اليوم أزمـة رغيف، ويصطفّ الناس أمـام الأفـران طويلاً للحصول على بضعة أرغفة، وهو مشهد لا نرى له مثيلاً في أفقر الدول قاطبة. وفي العديد من المقاطع نقرأ عن الخبز: “ما هو الخبز؟ قليل من الطحين مع ماء وملح، أقلّ الأشياء ثمناً، وأغلاها في وقت الحاجة. تركيبة عجيبة من العناصر، تصنع أرواحاً… فليس غريباً أن تكون الأيدي التي تطحن القمح، وتعجن الخبز مباركة. وأيدي النساء التي تعجن في الصباحات، عليها بياض جميل، ورائحة عَرقها تختلف عن رائحة العَرق عند النساء اللواتي يعتمدن على رغيف يشتريه أزواجهنّ من السوق”… (الدويهي، جميل: حدث في أيّام الجوع، 9)
وفي مكان آخر نقرأ: “لم يكن الوالد ولا ابنه عبدالله يعرفان أنّ في حوزة المرأة قليلاً من الخبز. فقد نجحت في تهريب فُتات، وأودعتها خزينة البقاء. فهذه الصرّة الصغيرة المصنوعة من قطن، فيها الآن غنى الملوك، وأموال الأمراء والحاكمين، وقد ينحني ملك لالتقاط ما فيها كأنّه يلتقط معادن ثمينة، ويخشى أن تفلت منه قطعة صغيرة.
أعطت الأمّ الخبز إلى ابنتها، فأخذته المسكينة بيدين مرتجفتين ودفعته إلى فمها دفعاً، وهي تغمض عينيها، غير مصدّقة أنّها أكلت شيئاً، وقد مضى عليها، وهي في تلك الحال من العناء والشقاء أكثر من يومين”. (حدث في أيّام الجوع، 17- 18)
هكذا يدلّل الكاتب على أهمّيّة الخبز، وقيمته، فالأمّ تخبّئه سرّاً عن زوجها في صرّة، وكأنّه ذهب الملوك. وتقدّمه في وقت الحاجة إلى الفتاة المسكينة.
ولكي يمزج الأديب بين الواقع واللغة الأدبيّة العميقة، فإنّه يكتب عن الرغيف بسحر وأناقة رفيعة: “الرغيف، قالت المرأة التي جاوزت السبعين، وأخذت من الأيّام حكمة… الرغيف يشبه القمر، ولو خيّروا الجائع بين الرغيف وأن يمتلك الشمس والمجرّات، لفضّل الرغيف الذي يشبعه ويسمح له بأن ينام قرير العين.
الرغيف له رائحة ونكهة خاصّة، تختلفان عن كلّ رائحة ونكهة. لعلّها النار التي تحتضنه، فيكون لونه أبيض، ثمّ تخرجه في دقيقة واحدة، بلون الذهب، وتخرج منه تلك الرائحة التي تغمض لها العيون. ولو وضعنا العجين تحت نور الشمس أشهراً، لما فعلت به كما تفعل النار. العجين لا يحبّ الشمس، يصفرّ لونه، يصبح مادّة لا فائدة منها. يصير مرّاً، وتأنفه الطيور… بيد أنّ شعلة من اللهب تحوّله إلى ساحر يخلّص العالم… تجعله نبيّاً يكرز في الشعوب، بل إنّ الأنبياء أنفسهم يشتهونه ويطلبونه عندما يهربون من اضطهاد، ويهيمون في البراري والقفار”. (حدث في أيّام الجوع، 26-27)
كم أنت جميل أيّها الدويهي! المتربّع على عرش الأدب الفريد والراقي، كيف أنّك تمزج بين المادّة والروح: الخبز من جهة والنار من جهة أخرى، وتبرهن بطريقة علميّة لا جدال فيها أنّ النار تفعل في الخبز ما لا تستطيع الشمس، وهي أعظم الكواكب أن تفعله… وبالنار المعدّة لإضاءة العالم، يكرز الأنبياء ويبشّرون الأمم.
المعاناة، الصبر، التشرّد، السجن، والسرقة… وكثير من المظاهر النافرة الأخرى تحملها القصّة الدويهيّة، فهي الكلّ في كلّ الزمان الجائع، وأصدق تعبير وتوثيق روائيّ عمّا حدث فيه، بل إنّ الدويهي رائد المؤرّخين، من خلال الأدب الروائيّ، عن حقبة من الحقب السوداء في تاريخ بلاده. وقد حدّد المكان، وزمان الجوع الآنيّ. وجعل المأساة تشمل الجميع، فلا يخلص منها أحد سوى المتحكّمين برقاب العباد. ومن يقرأ قصّة الدويهي يجد فيها ضحايا كثيرين، وهذا أمر طبيعيّ، في عصر لم يمرّ على البلاد مثله منذ أكثر من مئة سنة.
ويبقى أن أقول إنّ أديبنا العميد قد نجح في تحويل رؤيته الإنسانيّة إلى كتلة من الضوء، تتجاوز الحبر والورق، وتشرق من أستراليا، حيث ينبض أدب مهجريّ جديد، عبْر أفكاره الاغترابيّة، إذ يحلّق الدويهي في سماء الفكر والأدب، رفيع الجناحين، عالي الهمّة، حيث لا تجرؤ الطيور على التحليق.
***
*مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي – النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع 2022.