سهلٌ وليلة ذكرى

 

 سمر دوغان

 

هدأت عاصفة الألحان وأغاني الغرب والشرق توارت وراء أهداب داهمها وهن جميل من الرقص والنقر بالكعب العالي على العشب الندى والباطون الرمادي.

جنيان  بأجنحة بيضاء، كبر الوقت في زادهما، تفجرت شرايين عمرهما بشغف فلونت ليلة عمر كادت أن تكون مملة وعادية. أشعلوا الحلبة بستينية عمرهما، أغرقا الكؤوس بخمرهما المعتق في خوابي السنديان. طالت اقداهما النجوم، فنزلت من عليائها لتصطاد ذاك الفرح البسيط بعيداً عن منمنمات مزخرفة في أطر البروباغاندا الغبية.

هل غاب القمر فعلا في كبد السماء الليلكي، أم إنه أحب صحبتي فجالسني بنوره على هذا المقعد الخشبي المبلل بعرق عشاق تاهوا في أحلامهم… هو هنا بجواري يلامس وجنتاي، أناملي.. يدغدغ هفواتي، يلاعب أوتار القلب، يلتمس من شفاهي قبلة تروى ظمأ طال إنتظارها.

غادرني النوم، ملكت الدنيا بين كفيّ، عربدة إزميرلدا ورموش أهدابها الغجرية وروحانية أحدب نوتردام خالجت جسد يضج بحكايات تهمس لأمس، لزمن مضى على وقع الخلخال يضرب بالأرض… أستفق من النوم، هنا الحدود بلا خطوط حمراء أو زرقاء.

أذّن الصمت في السهل بين حدود الجبال الجرداء ووهاد تسمرت قناديلها في البقع السوداء، وأزدانت عباءة الشرق بنار نجوم سطعت، تروى حكاياتها التي لملمتها بأطراف نورها من عيون الساهرين، المترقبين لشيء ما، ربما حدث أو ورقة يانصيب رابحة أو ولادة طفل معجزة…

ساكنة في رهبنة الوجود، أتجرد من تعبي، تلمسني تلك النسائم الباردة، أتذكر أنه في مثل هذا اليوم، ودعت عزوبيتي، أغوتني تجربة أن أرتدي ثوب عرس بسيط وفرح في صالة صغيرة، وزغاريد على وقع الإرتقاء لسجن مقدس. بكيت عندما عانقتني أمي وكأنها تودع طفلتها المهاجرة لكوكب المريخ. وراحتي يديّ غمرت رهبتها، ولغة العيون تفيض بكل الحب (لن أغادرك فأنتِ صمام أماني).

ولأن أخي عماد يتقن شهقات جنوني، ويتفرد بسحره، إستأجر سيارة قديمة زرقاء مكشوفة السقف، زينها بفنه المنحوت ورداً في أنامله الرفيعة، حملنا في زوبعة فرح، وسار بطرحتي والهواء التموزي الرطب يتدلل في الخصلات الممهورة بآلاف الدبابيس. دنيا العزولة أبت إلا أن تجلس بيننا، تراقبنا، تلتقط بضحكتها همسات لم نسمعها، جالت بنا السيارة في شوارع مدينتي التي لم تودع الحرب أروقتها شارع الحمراء، عين المريسة، الروشة ما زال يكحلهم السهر ونغمات أمل بأن نرتاح من عبثية حرب جردتنا من كل أحلامنا.

وصلنا إلى البيت… لا تتعبوا كانت الكهرباء مقطوعة… لم يتغير شيء، وكأننا ألفنا الظلمات…ما كان في قدرة زوجي أن يحملني بين ذراعيه. كيف يا ربي والصعود إلى الطابق الثالث من بناية قديمة، في عتمة تضحك جدرانها من أوهامنا، ستفقده حتما ما تبقى له من نفس. ربما زودتنا بساطتنا أن نرتضي بالمتاح فقط كي نستمر بالحياة… هو هذا المفتاح الوحيد الذي كنا نملك، نفتح به باب الدار، كل الدروب الصعبة وكل المتاهات المغلقة.

أضأنا الفانوس… ليس فانوس علاء الدين والجني الأزرق الضخم الذي يردد بقهقة عجيبة(شبيك لبيك عبدك بين إيديك) مجرد فانوس لا أكثر ينير بضؤه الشاحب الممرات المتعرجة بين أثاثات قديمة…حاولت بعذرية فنانة أن أحولها لتحفة فنية ترضى ذهولي من شحبرة عجوز، راكمت فوق الخزائن المهملة وفي كل الزوايا مقتنيات تشبهها، تحاكي كل الذكريات التي إلتهمت عمرها ولم تواكبها في هجرة إلى ما وراء البحار حيث لا غيم أسود ولا غبار قذائف لا تنطفئ.

ليلة عمر قضيناها نحاول وبحرفية أن نزيل كل الدبابيس العالقة في هامة خرقاء، تعبنا من هذا العبث، وحاولنا أن نبرد أجسادنا المبللة بالعرق من حرارة زادت على لهيبنا جمراً… ولكن لم يكن في كل الصنابير ماء… لم يتغير شيءً….ما زالوا هم أنفسهم يعربدون في أرواحنا… الثالوث المقدس، وبخور الكهنة والمشايخ تزيد في نجاستهم وتزكي رائحتهم القذرة، تقدم لهم أجسادنا قرابين على مذابحهم وتزيد في إنكارنا.

إستفقت من غيبوبة الذكرى بيد أرادت أن تذكرني بأنني ما زلت حية برغم كل الأسواط التي تجلدنا ألف مرة… نهوى الحياة، نصنع من قطرة ماء شلال متدفق في صحراء جرداء، نتقن فن العودة من الموت ألف مرة، وننذر لسجننا المقدس كل قرابين البقاء.

إلى شريك عمري هدية ذكرى لعرس بسيط كخرابيش الزمان علمتنا أن نحيا.

اترك رد