كنت أبحث في المراجع المتوافرة عندي، على قلّتها، عن الأسباب النفسيّة وراء ظاهرة تصغير الكبار وتكبير الصغار في مجتمعاتنا، ليس في السياسة وحدها، بل في كل مجالات الحياة. ووجدت بعض الآراء في هذا الموضوع، ووقعت على كلام منسوب إلى أحد الحكماء يقول: “من يكبر الصغار يألم ومن يحاول تصغير الكبار يندم”. ولست أدري إذا كان هذا الكلام صحيحاً أم إن أحد الكتّاب اخترعه ليثبت حجّته.
ويتّضح لي يوماً بعد يوم أنّ مجتمعنا العربيّ تحديداً مليء بالقصص التي تؤكّد أنّ عندنا شغفاً، قد يكون موروثاً من عصور قديمة، بتصغير الكبار وتكبير الصغار. وما نشهده في الجانب الأدبيّ الذي يعنينا أكثر من غيره، هو فاقع وواضح كالشمس، ولا حاجة بنا إلى إعادة تظهيره. لكن يحقّ لنا أن نبدي الخيبة والانزعاج، لأن هناك من يحاولون تشويه التاريخ… وهو لا يشوَّه.
هذا الكلام ليس موجّهاً إلى أحد، بل هو كلام عام، نقوله من باب اختصاصنا في النقد، وقد حُرّم علينا طويلاً أن نستخدم نقدنا، لأسباب لا تخفى على أحد. فكيف تسمح مؤسّسة قامت على مديح الأعمال الهزيلة بأن ينكشف دورها في مراعاة الخواطر، والانحياز بسلوك عنصريّ ضدّ الأعمال الجليلة؟ وكيف يسمح أديب لم يكتب رواية، ولا قصّة قصيرة، ولا فكراً، بل ملأ الدنيا بأشعار لا تزيد شيئاً عن غيره، بأن يكون في مجتمعه من يفوقه عطاء ورفعة ونوعاً؟ وكيف يتقبّل ناقد، كتبَ لسبب أو آخر، عن أديب عاديّ، وجعله أهّم من جبران ونعيمة، أن يبرز في البيئة نفسها أديب عظيم ورفيع، فيضع أعماله على الطاولة، ويثبت ضآلة النقد والأدب معاً؟
دأب أحد الكاتبين على وسائل التواصل الاجتماعيّ أن ينتقد كلّ مشروع مهمّ، ففي اليوم التالي لأيّ إنجاز رائع، كان يكتب بطريقة خبيثة، وينتقد، ويهشّم… وكم تمنّيت لو تحدّث عن الإيجابيّ والسلبيّ معاً، أو لو أنّه انتقد المشاريع الضعيفة والمجيدة معاً. فلا مانع في ذلك، أمّا أن يشهّر على مدار الساعة فقط بما هو عظيم، فهذا لا يقبله منطق.
وإنسان آخر، يشْهد مهرجاناتي كلّها، فيحمل كتبي تحت إبطه، ويخرج من عندي وحده عابساً، وكأنّه كان في مأتم، بينما المئات فرحون. وفي مناسبات أقلّ أهمّيّة بكثير جداً… يعرض ابتسامته، ويشيد، ويبالغ في التفخيم والتعظيم. وهذا الإنسان هو مثَل لا يرقى إليه الشكّ عن تصغير الكبير وتكبير الصغير.
كتبنا من قبل عن ظاهرة تدعى “قطع الخشخاش الطويل”، وهي ثابتة علميّاً وتاريخيّاً، ومعناها أنّ كثيراً من الناس، وليس كلّهم، يسارعون إلى تصغير كلّ إنجاز كبير. ودعوت على هذه الحالة اسم “أفعل التصغير”، ووراءها عامل نفسيّ غير سليم. لكنّ ما لم يكتب عنه المؤرّخون ولا العلماء هو ظاهرة “تكبير الخشخاش القصير”، أي أن يسارع البعض إلى تضخيم إنجازات لا تختلف عن غيرها، ولا تتفوّق، وليس في العلم ما يثبت أنّها الأهمّ والأفضل.
هذا ما نشهده في العديد من الفعاليّات، في عمليّة تشبه عمليّات الغشّ في الامتحان، أي ترفيع مَن لم ينجح إلى صفّ أعلى، وهو لا يستحقّ.
وأبشع ما يشعر به المبدع في مجتمع أن تكون هذه الظاهرة موجودة، فعمله الضخم والنوعيّ يشبه التيتانيك، ومعرّض للغرق والاختفاء، وأعمال هزيلة تشبه الزوارق المتهالكة يجتهد المادحون في وصفها وتبخيرها، في مشهد سورياليّ، وغرائبيّ لا يُصدّق، وتشكّ العيون في أنّه حدث فعلاً. وهذا يدلّ على قصر نظر، وجهل في التقويم العلميّ، إن لم يكن نكاية وثاراً من كلّ مبدع حقيقيّ.
الأمل معقود ، في أيّ عصر مضيء، على أصحاب الضمائر الحيّة. ما أكثرهم وما أغلاهم!
***
*جميل الدويهي: أفكار اغترابية للأدب الراقي – سيدني 2022