الحروب في الأدب ماضيًا وحاضرًا

     مسافات: منيرة مصباح

 

 كيف يمكن لكاتب أن يكون مستشرفا للمستقبل! وهو مسكون بالجدل والتحدي والضرب في المجهول! هذا ما قد تبادر لي بعد أن انتهيت من رواية “إخلاص” لنجيب صالح. فمنذ الصفحات الأولى يضع الكاتب أشخاصه في مواجهة الحياة، ليتتبع أفعالهم ونموهم الطبيعي، كرموز موضوعة بترتيب منطقي وتاريخي مع حركة وعي فني في عملية كتابة رواية لا تنفصل في مادتها عن حركة الوعي السياسي، فكلاهما متلازمان يفضي كل منهما إلى الجديد والإبداعي والكاشف. لذلك يبدو لنا الزمن الروائي، زمنا دائم وغير عادي، زمنا ممتدا لاختلاط الماضي بما يحصل في الحاضر في مدن عديدة من بقاع العالم التي تنتشر فيها الحروب، ولكون هاجس النص يحمل هدفا في طرح الأسئلة من أجل دفع المطّلع على العمل الأدبي، ان يشارك في إيجاد الحلول المناسبة للقضايا الإنسانية المتشابهة والمتصلة والمتواصلة ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

في رواية “إخلاص” يتحدث المؤلف نجيب صالح عن قصة شاب ترك المدينة بسبب الحرب القائمة فيها، وذلك هربا من مآسيها وويلاتها، وكانت الزوجة هي السبب المباشر لإلحاحها الدائم عليه بالسفر، ولإيجاد عمل في أي بلد آخر يكون أكثر هدوءا واستقرارا يستطيع به ان يواجه قسوة الحياة في مدينتهم، كأن الحرب برؤية هذا الشاب وزوجته سوف تنتهي في يوم ما.

لكن شخصية هذا الشاب في الرواية يدفعها الكاتب الى العودة بسرعة إلى مدينته التي غادرها للعمل في مكان اخر، بعد أن اكتشف في غربته أنه قد فقد حتى زوجته وأسرته وكل شيء يمتلكه أيضا، وبذلك يرى أن الحرب قد دمرت عائلته وبيته.

وفي مواجهة هذا الواقع المأساوي، تبدأ الشخصية الرئيسية في الرواية رحلة البحث في كل مكان عن الأسرة وعن تلك المدينة التي كان يسكنها والتي تغيرت ملامحها بسبب الحرب، وهو في حالة من الإفلاس. تقول الرواية على لسان الزوج في تذكره لحوار دار بينه وبين زوجته ومدينته:

” هل تريدين أن أجمع لك في لوحة واحدة زهرات العالم وهو في ربيعه وغاره، وهو في خريفه! أن أجمع كل ما عساه أن يسحر الروح ويهزها ويغذّيها ويطعمها، بل أن أجمع الأرض والسماء نفسهما في رسم واحد! اذن لذكرت اسمك وبه أذكر كل شيء دفعة واحدة، “إخلاص”.

ان المدينة التي يكتب عنها نجيب صالح هي بطل الرواية وهي حياة الكاتب في نفس الوقت، بكل ما تحمله من ماض وحاضر ومستقبل. والبحث عنها بعد ضياعها، هو بحث عن الذات، في كل مكان، رغم نكران الناس لها ولوجودها.

أما شخصية الكاتب فهي تتضح من خلال النماذج التي يعالجها، حيث تكمن فيها القضية التي يريد طرحها. فعندما يجسد تدريجيا ذلك الانسان الداخلي، تظهر نغمة الذكريات وآفاق المستقبل التي تصر على الحقيقة. لكن الأحلام تصطدم بالواقع لتبدو الشخصيات الثلاث في الرواية، (خيرالله – ميلان – والأمين) في حالة من الجدل الفلسفي، وهم منحشرون في ملجأ أو في ممر، نراهم يناقشون وجودهم في الحياة تحت قصف من القنابل ورصاص المدافع والرشاشات. يغمرهم الخوف من الموت والجوع، لكنهم يستمرون بفلسفة الحياة ليعيدوا بناء الحقيقة طبقا لأحلامهم. هكذا أعاد الروائي من خلال شخصياته الحقيقة الواقعية على أسس من الأحلام، ليسترد سعادته المفقودة، والتي كان يعيشها بطل الرواية قبل سفره، رغم تخلي الأهل والأصحاب عنه، ولم يبق بجانبه في بحثه الدائب سوى الصحفي الذي كان يبحث معه وبحماس عن المفقود داخل الذات، ذلك الذي يجمع في وجه رائع تلك القوى الغامضة والمبعثرة في الكون.

لقد كان الحب بالنسبة لبطل الرواية إيمانا مطلقا ومزيجا مكتملا من الاحساس المرهف والذهن المتوقد. حيث تكمن صورة الجمال الحضاري لتتجسم مع الجمال الخلقي في تلك العلاقة، ولتبقى أسطورة المرأة والمدينة في الرواية، تلك التي أصبح فارسها لا يجد مكانا يركض فيه إلا وذهب إليه للبحث عنها. مما دفعه للتخلص من رومنطيقية النظرية، والتحول بالطبع إلى رومنطيقية الحركة والمغامرات. فماذا يحدث هنا للرومنطيقي؟ وكيف له أن يوفق بين أحلام شبابه وبين حياة المخاطرة التي اضطر إليها في ذروة الحرب؟ الجواب لا شيء، الحرب مستمرة في هذه الرواية كما هي مستمرة الان في أكرانيا احدى بقاع هذا العالم، والمدن ما زالت تسكنها الدماء، لكن الاحلام وحدها تجعل الكاتب سعيدا في وضع النهايات التي يريدها لعمله الروائي.

اترك رد