الخروج من البكائيات والمراثي
إذا كان الأدب الأمريكي الأسود قد خرج من ترانيم “الجوسبل” أي غناء الكنائس والمراثي الدينية، واتجه في بداياته الى تصوير الحياة شعرا ونثرا، فإنه قد تحول فيما بعد الى قوة حقيقية بين زنوج أميريكا، بعد أن انتزعوا بعضا من حقوقهم في الحصول على العلم والمعرفة وفي الوصول الى أخذ مقاعد سياسية وإعلامية مهمة.
إن المسافة بين البكائيات والمراثي الدينية التي تغنى بها الامريكي الاسود طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبين أشكال التعبير الأدبي والفني التي مارسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن، مسافة طويلة وعميقة الغور في آن واحد. فقد بلغ هذا الإنسان مرحلة دفعته الى التخلي عن الطرائق التي أخذ بها منذ أن كان رقيقا في مزارع القطن بولايات الجنوب الأمريكي. وكانت هذه النقلة عنيفة الوقع على الحياة المعاصرة اجتماعيا وادبيا وثقافيا بشكل عام، وما يهمنا هنا هو الجانب الإبداعي لكتاب وشعراء الولايات المتحدة .
لذلك نرى بين قصائد “لانغستون هيوز” وبين روايات “ريتشارد رايت” شبه شديد في المضامين، فكلاهما يصف الحياة القاسية للزنوج في أمريكا، في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، لكن هذه الحياة قد تطورت مع مرور الزمن وتحولت الى مطالبة حقيقية من قبل الانسان المضطهد، حيث دخل جيمس بولدوين الوسط الادبي في الخمسينات، لا ليصور مآسي اخوته، بل ليكون صوتهم في سبيل انتزاع الحق من أجل العيش الإنساني بكرامة، وبكل ما تحمله كلمة انسان من معان. فصدرت لبولدوين رواية “اذهب واعلن الحقيقة فوق الجبل” ورواية “الموعظة” حيث اصبحت الروايتان بداية لما يمكن أن يسمى بالأدب الزنجي المكافح.
وقد جاءت الرواية الاولى عبارة عن سيرة ذاتية تصور حياة الكاتب عندما كان طفلا في موكب أحد رجال الدين في حي هارلم. واصبح بولدوين يحتل مركزا مهما كقوة أدبية يعتز بها السود، بعد أن كتب العديد من الكتب، وقد بلغت هذه القوة حق المطالبة بالحقوق المدنية ضد التمييز العنصري في بداية النصف الثاني من القرن الماضي. كما أصبح بولدوين بسبب من كتاباته، الناطق الادبي باسم جيله كله. أما اليوم فلم تعد هذه الحركة، أي حركة الحقوق المدنية، التي دافع عنها بولدوين طويلا، تأخذ نفس المسار الماضي، لأنها انتقلت الى المفاوضات والى القوانين الدستورية،وإلى أن يصبح أحد رؤساء أمريكا في القرن الواحد والعشرين من السود أيضا. كذلك بسبب بروز قضايا عرقية أخرى في المجتمع الأمريكي، أدت الى نشوء فوارق إجتماعية بين السود أنفسهم. لكن رغم ذلك بقي جيمس بولدوين يشعل النيران في كتاباته، ويصّر على أن البيض عليهم أن يعترفوا بثقل مجتمع السود، قبل أن يتفجر الوضع ويؤدي الى حرب عرقية.
عاش بولدوين في نيويورك معظم فترات حياته، وفقد فيها العديد من الاصدقاء، ليس بسبب الموت فقط بل ايضا بسبب التغيرات في المجتمع، وبسبب أنّهم لم يعودوا يعملون معا في الجنوب القصي، حيث أن العديدين منهم قد أصيبوا بأمراض لا شفاء منها، بينما جن عدد آخر منهم عندما أصبحوا في الشمال. كتب بولدوين آخر رواياته تحت عنوان ” فوق رأسي مباشرة” وهي تتناول قصة حياة مغن زنجي من أولائك الذين يغنون في الكنائس، يقول عنها: “هناك اشياء عديدة لا يمكن للكاتب إلّا أن يفكر فيها، ليقوى على طرحها فوق الورق، فهي دليل من دلائل الإيمان بقضية ما، وان تكون حرا يعني ان الاختيار لديك هو قرار له مسؤولياته، هكذا الأمر في حرفة الكتابة وفي كل حرفة أخرى، وحتى ننتقل من مصير الموجة الى مسار الموج يظل علينا أن نقف احرار.
أما “ريتشارد رايت” فقد نذر حياته وكتبه للدفاع عن حرية الزنوج الأمريكيين، وكان هذا الموضوع محور كتاباته القصصية والروائية والنقدية. فهو قد نشأ على الألم والقلق الدائم، لذلك نراه قد تآلف مع الغضب والسخط على ما يجري حوله. وقد فضحت كتاباته النظام القائم في بلاده، كما نجح في لفت أنظار العالم الى قضية السود في أمريكا وهي قضية التمييز العنصري التي سادت النصف الأول من القرن العشرين، حيث ترجمت كتاباته الى العديد من لغات العالم المختلفة.
استطاع “رايت” في بداية حياته أن يقهر الفقر والإهمال، وان يظهر بموهبته الأدبية وحسّه الفني الصادق وخياله المبدع. وقد حصل هذا بفضل إرادته الصلبة وعزيمته التي لا تلين، من خلال احساسه بتفوقه على البيض الذين كان يعمل لديهم.
بعد ذلك انطلق يكتب في الصحف ذات الاتجاه التحرري، فكتب عما كان يعيشه من اضطهاد بأسلوب ساحر. حتى استطاع اخذ مكانة كبيرة وشهرة واسعة بين ادباء عصره، لمساهمته برسم ملامح أدب تحرري جديد وإنساني يعرف باسم ” الأدب الزنجي”.
ثم صدرت مجموعته القصصية “ابناء العم توم” التي صوّرت بدقة كبيرة الحياة الرهيبة التي يعيشها السود في الولايات المتحدة. تلك القصص شكلت ملحمة قد عاشها الزنوج الذين تصدوا بوسائلهم البدائية للانسان الذي يمتلك القوة الحديثة.
ثم جاء كتابه ” تاريخ وتراث الزنوج في الولايات المتحدة” وبعدها “أصوات 12 مليون أسود” و”يوم عطلة رهيب”. وكانت هذه الأعمال كلها تسلط الضوء على التمييز العنصري الواقع ضد السود والعذابات الكبيرة والفظيعة لهذه الفئة من البشر، مما جعل من هذا الكاتب أحد الرموز الكبيرة في تاريخ الادب في الولايات المتحدة الامريكية.
لقد جاءت كتب “ريتشارد رايت” لتكرّس رؤيته ومواقفه السياسية والفكرية والأخلاقية، مما كان له أثر كبير وواضح على الأدباء في الولايات المتحدة، وهذا ما جعله احد اهم مؤسسي مدرسة أدبية اشتهرت على أنّها مدرسة الأدب الزنجي، والتي ضمت العديد من الأدباء أشهرهم جيمس بولدوين وهنري لويس منيكن والروائية الحاصلة على جائزة نوبل “طوني موريسون” وغيرهم. كما ظهر منها العديد من الفنانين والرسامين أيضا، وكانت هذه المدرسة تقوم على نظرية المساواة والعدل بين أبناء المجتمع الواحد بغض النظر عن العرق أو اللون أو الفكر والمعتقد.