من الكتاب الفكريّ العاشر: “على ضفاف الروح”
يصدر قريباً من “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
كان المهندس البارع يشرف بنفسه على بناء جسر فوق النهر الذي يفضل بين طرفَي البلدة الصغيرة، وقد اختارت وزارة النقل هذا المهندس بالذات لكي يتعهّد إنشاء الجسر، لما له من خبرة ومعرفة بشؤون مهنته. والدولة حريصة على أن يكون الجسر تحفة معماريّة من الطراز الرفيع، تضيف إلى أهميّة البلدة السياحيّة التي أصبحت محجّة للزائرين من كلّ أنحاء العالم.
وبينما كان المهندس يلقي نظرة فاحصة على أحد الأعمدة الثقيلة التي بُنيت لحمل الجسر، لكي يتأكّد من صلابة الموادّ التي استخدمها العمّال، وقدرة العمود الضخم على الصمود أمام الزمن، مرّ في المكان فلاّح بسيط، كان عائداً للتوّ من مزرعته التي تقع عند أطراف الناحية. وما إن رأى المهندس منشغلاً في عمله، حتّى وضع يديه وراء ظهره، ومشى بخطوات متّزنة إلى المهندس، وهو يرفع رأسه، ويصطنع الفهم والمعرفة، فقال:
يا للخيبة! يا للخيبة!… ما هذا يا حضرة المهندس؟ هل أنت فعلاً تبني لنا جسراً… أم ماذا؟
تعجّب المهندس الخبير الذي حاز على جوائز عالميّة، وطبقت شهرته الآفاق، ونظر إلى الرجل بدهشة كادت تخرجه من ثيابه، وقال:
خير يا عمّ. هل تخاطبني؟
-نعم أخاطبك… ألا ترى هذا العمود ملتوياً، فبدلاً من أن يكون عموديّاً مئة في المئة، هو يجنح إلى جهة اليمين؟ وهذا سيؤدّي إلى كارثة، ويسقط الجسر بمَن فيه وما فيه إلى النهر.
قال المهندس: أشكر ملاحظتك يا سيّدي، لكنّني متخصّص في عملي وأعرف ماذا أفعل. لقد جعلتُ العمود ملتوياً، لأنّ العمود المقابل يلتوي نحوه بالنسبة ذاتها، وهذا صحيح في الفيزياء.
-أيّ فيزياء؟ أنا أعلم منك في هذه الأمور… لا أشكّ في أنّك تحاول أن تغطّي الخطأ بخطإ مماثل، وتقدّم إليّ عذراً غير مقبول.
-غريب يا أخي… هل أنت تعلمتَ الهندسة؟
-لا… لم أتعلّم ولم أدخل إلى مدرسة في حياتي كلّها، بيد أنّني أفهم في كلّ شيء… أنا أكثر فهماً منك.
امتعض المهندس من هذا الكلام، ولم يشأ أن يُظهر اضطرابه أمام فلاّح لا يعرفه، فاصطنع ابتسامة وقال:
-حسناً. لا تنفعل… جميع الناس يعرفون أنّ الإنسان يتخصّص في عمله، فالطبيب والمحامي والطيّار والطبّاخ… كلّهم يتعلّمون في الجامعات ويتخرّجون، ولا يحقّ لهم العمل إلاّ بعد أن يحصلوا على شهادات ورخصة قانونيّة… وأنت أيضاًَ قد اختبرت الأرض واختبرتك، وعملك فيها مشرّف ومفيد… ويا ليت كلّ عامل يعرف حدّه فيقف عنده!
-لا تهمّني الشهادات ولا الرخصة… جميع أهل البلدة يعرفون أنّني عالِم بالفطرة، وأستطيع أن أبني لك برجاً من طوابق كثيرة… لستَ أفضل منّي… ولو سمعتَ كلامي، وأصغيتَ إلى نصيحتي، لكان الجسر أفضل بكثير ممّا تخطّط له.
صمت المهندس، بينما كان الرجل يتلمّس العمود بأصابعه القاسية التي صهرها التراب والشمس، وهو يضرب أخماساً بأسداس، ويبدي الأسف، لأنّ الخلل في البناء ظاهر للعيان، ويجب تصحيحه على الفور قبل أن تقع الخسارة الفادحة.
نظر الفلاّح إلى المهندس نظرة عتب، وهو يهزّ برأسه ويقول:
الذكاء… الذكاء… قبل العلم والشهادة… شكراً لك يا ربّ لأنّك جعلتني أتفوّق على العلماء في عبقريّتي.
فيما كان الفلاّح ينظر إلى السماء، ويتباهى بفطنته ومعرفته، ويسير شامخ البنية، واثقاً من نفسه، وصلت إلى المكان امرأة شمطاء، عصبيّة، ذات شعر أشعث، ووجه كبير، وقد برزت عيناها كفحمتين، فصاحت إلى الفلاّح قائلة: كنت أبحث عنك يا زوجي… لقد خربتَ بيتنا.. فالحمار الذي ربطتَه هذا الصباح إلى خابية الزيت، هرب وأخذ الخابية معه. يا لك من غبيّ!… يا لك من غبيّ!…
***
*جميل الدويهي: مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع