جميل الدويهي: مدينتان

 

 

من كتاب “على ضفاف الروح” يصدر قريبا من مشروع أفكار اغترابية.

 

دخلت إلى مدينة فيها أشجار كثيرة، ذات فاكهة من كل نوع، وتحتها ينابيع رقراقة تسير بهدوء إلى المحيط البعيد، كأغنية من فضة. ورأيت أطفالا يلعبون على أراجيح، ويقود بعضهم دراجات على طريق متعرج، وأمهات يصلين لإله يسمع ويرى… ويحب.

وعند الشرفات كانت أزهار ياسمين تتدلى بغتج، وتنشر عبيرها، وفي ظلالها فتيات يتبادلن الأحاديث ويضحكن. اعطتني واحدة منهن ثوبا أنيقا، وقالت لي: عندما تخلع ثياب الأمس، ستصبح إنسانا مختلفا، وستتغير أفكارك.

تعجبت لأنني اعرف أن الثياب هي جسد آخر، ولا تغير في طبيعة البشر، لكنني تذكرت أن أفكار المرء في الشتاء لا تكون ذاتها في الربيع، وأن أحلامه في الليل تختلف عن أحلامه في النهار. واقتنعت بأن الثياب قد تجعلني أخرج من الحزن إلى الفرح. سألت تلك الفتاة إن كانت متزوجة، فضحكت وأجابت إن زوجها يعمل بحارا، وقد ذهب إلى جزيرة بعيدة ليكتشف صناديق الذهب واللؤلؤ، ويعود بها مع بحارة آخرين، يحملون البحر في أرواحهم.

ووصلت إلى مدينة ثانية، فيها أشجار صفراء تئن في الريح والمطر، واهلها شاحبو الوجوه، يرتدون ملابس من قماش أسود، ورأيت في تلك المدينة رجالا يركبون الخيول، ومعهم رماح طويلة يتفاخرون بها، فسألت واحدا من المارة عن أهل تلك البلاد، فأخبرني بأنهم في حرب مع شعب مجاور، ولا يعرفون الطمأنينة، فالنساء هنا ثكالى، والأولاد يتامى، والعجائز مشردون… جعت إلى رغيف خبز فطلبت أن أعطى، فأعطوني حجرا، وعطشت فقصدت البحيرة لكي أشرب، فإذا ماؤها مالح.

كانت تلك المرة الأولى التي ألطم فيها وجهي كثيرا، وأذرف دمعة على الحب الذي تهدم وصار أثرا بعد عين.

في تينك المدينتين عرفت صورة نفسي المتناقضة بين الفضيلة والذنوب، وسمعت صوت البشرية كلها، وهي ترقص في أعراس الجمال والخير حينا، وفي حين آخر تكشف عن وجه أسود، فيه حقد وثأر… ومهما تغيرت العصور، سيبقى الرجال يحملون في يد بندقية، وفي يد أخرى غصن زيتون… تارة يسيرون إلى مشارق الشمس، وتارة إلى نعوشهم يسيرون.

***

*مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع ٢٠٢٢

اترك رد