أَيَكُونُ يَومُ الفِراقِ يَومَ الاجتِماع؟! (جُبران خَلِيل جُبران)
ولَقِيتُها بَعدَ الغِيابِ، بَينَ الكُؤُوسِ مع الصِّحابِ
في مَجلِسٍ فاحَت بِهِ خَطَراتُ شِعْرٍ مُستَطابِ
مِن خَمرَةٍ دُهرِيَّةٍ دارَت، وأَنغامٍ عِذابِ
في قَدِّها وَشْيُ الرَّبِيعِ، غِوًى، بِأَغصانٍ رِطابِ
ويَفُوحُ، مِن أَنفاسِها، طِيْبٌ كَأَنفاسِ الرَّوابِي
والثَّغْرُ، كُمُّ الوَردَةِ الحَمراءِ، مِعْطارُ الرُّضابِ
يا جِيدَها المَمشُوقَ تَسبِينِي، فَهَل لِي مِنْ مَتابِ؟!
وبِسَفحِكَ انحَسَرَ الحَرِيرُ، ومالَ عَن أَلَقٍ عُجابِ
مَدٌّ مِنَ العاجِ الصَّقِيلِ، يَنُوءُ بِالشُّقْرِ الهِضابِ
وهُناكَ، بَينَ الرَّبوَتَينِ، مَسارِبُ الطِّيبِ المُذابِ
وعلى مَدارِ النَّهْدِ، يَأخُذُنِي الدُّوارُ، ولا يُحابِي
حَتَّى إِذا حَطَّتْ لِحاظِي فَوقَ حَمراءِ القِبابِ
أَنهَدُّ في إِغماءَةِ الأَرَجِ المُقَطَّرِ في الحَبابِ(1)!
***
يا جارَتِي، هل في رُوائِكِ(2) مِنْ عِقابٍ أَو ثَوابِ
والعَقلُ باتَ أَسِيرَهُ، فَإِذا الجُنُوحُ مِنَ الصَّوابِ؟!
ما الحُسنُ إلَّا لَمسَةٌ لِلَّهِ، ضاقَت بِاليَبابِ
فَأَتَت إِلَينا كَالشُّعاعِ، انسَلَّ مِن حُجْبِ الضَّبابِ
هي لَمْعَةٌ مِن أَرضِ آمالٍ، وظَنٍّ وارتِيابِ
هي مِن سَرابٍ كَم نَشَدناهُ، ولَيسَت مِن سَرابِ
هي مِن دُنًّى، في الحُلْمِ شِدْناها، تَعِزُّ على الطِّلابِ
أَعيَت سُؤَالًا ضاقَ في العَقلِ اللَّجُوجِ، بِلا جَوابِ
وأَنا، أَمامَ بَهائِها الطَّاغِي، أَأَبْقَى في ارتِقابِ؟!
***
مَهْلًا، فَسِحرُكِ خَمرَةٌ، نُسِيَت دُهُورًا في الخَوابِي
هَلَّا أُلامُ إِذا اندَفَعتُ، مَعَ الجَمالِ، إلى الشَّرابِ
وبِيَ الدِّماءُ نَهُومَةٌ، وبِأَضلُعِي جُوْعُ التُّرابِ؟!
جُوعِي، إِلَى الجَسَدِ الدَّفِيءِ، كَذِئبِ وَعْرٍ جاءَ غابِي
يَقتاتُ مِن لَحْمِي الطَّرِيءِ، ومِن نَجِيْعٍ في انصِبابِ
أَنا قد خُلِقتُ وما سُئِلتُ، كَذا، فَما ذَنبِي، وما بِي؟!
وَوُلِدتُ في جَسَدِي اللَّهِيبُ مَدَى اللُّهاثِ، وفي رِحابِي
أُدعَى إِلى فَرَحِ الوَلِيمَةِ، ثُمَّ أَدفَعُ مِن حِسابِي
مُدَّ السِّماطُ(3)، أَتَيتُهُ نَهِمًا، بِأَظفارِي ونابِي
أَأَكُونُ فِيهِ فَرِيسَةً؟! أَيَكُونُ في جُوْعِي عِقابِي؟!
أُلقِيتُ في وَكْرِ الذِّئابِ، وما عَلَيَّ سِوَى ثِيابِي
وأُلامُ إِنْ جَسَدِي تَلَظَّى بَينَ أَنيابِ الذِّئَابِ
أُعطِيتُ قُطْعانًا فَجِئْتُ بِها إِلى خُضْرِ الشِّعابِ
ورَجَعتُ، والقُطعانُ سالِمَةٌ، أُدَنْدِنُ في الغِيابِ
هَل حِكمَةٌ لِلدَّهْرِ في عَوْدِي وقد صَفِرَت وِطابِي(4)؟!
***
مالَت تُحَدِّثُنِي، فَمالَ القَلبُ مُخْضَرَّ الرَّغابِ(5)
وحَنِينُها بادٍ على الوَجهِ الصَّبِيحِ بِلا نِقابِ
واللَّيلُ جُنَّ مِنَ الغِوَى، وهَوايَ مَسعُورُ اللُّهابِ
وأَنا تُؤَرِّقُنِي الثَّوانِي الهارِباتُ بِلا إِيابِ
أَنْ تَعبُرَ السَّمَرَ الأَنِيسَ، على جِمارٍ في الجَنابِ
مِن غادَةٍ شَهَّاءَ تُمطِرُكَ الدَّلالَ مِنَ الحُبابِ(6)
لَلَذاذَةٌ تُذكِي اللَّهِيبَ بِوالِهٍ غَضِّ الإِهابِ!
***
ومَضَت سُوَيعاتُ اللِّقاءِ، كَأَنَّها وَمْضُ الشِّهابِ
وحَنِينُها الباكِي، كَأَوراقِ الخَرِيفِ، إِلى ذَهابِ
وتُكابِرُ العَينانِ، تَأبَى أَن تَؤُولَ إِلى انسِكابِ
وتَقُولُ، في هَمٍّ يَحُزُّ بِها، ويَنخُرُ في اللُّبابِ:
أَنا سَوفَ أَرحَلُ، في الصِّباحِ، إِلى دِيارِ الإِغتِرابِ
قَسْرًا، ولَيسَ لِيَ الخِيارُ، ولَيسَتِ الدَّعْوَى خِطابِي
أَصبُو وأَشواقِي إِلى أَرضٍ، فَتَأباها رِكابِي
هَلَّا تَرَكتَ، لِذِكْرِنا اللَّهفانِ، زادًا في جِرابِي؟!
فَعَتِبتُ كَيفَ سَتَمنَعُ اللَّقيا، ولا يُجدِي عِتابِي
وهَناءَةٌ نَحيا بِها، نَغَمٌ تَفَلَّتَ مِن رَبابِ
إِنِّي وَدِدْتُ وِصالَها لِلخِصْبِ، يَفتَحُ كُلَّ بابِ
فَأَبَى الزَّمانُ، وحُلْمِيَ الزَّاهِي تَهافَتَ لِلتَّبابِ(7)
ونَفَحتُها شِعْرِي، وقُلتُ: خُذِي حَياتِي مِنْ كِتابِي
أَنا فِيهِ، في حُبِّي، وفي أَلَمِي، وفي وَجْدِ التَّصابِي
فِي خَيبَتِي، فِي جُرْحِ أَيَّامِي، وأَسواطِ العَذابِ
مَنْ لاهِبِ الذِّكرَى، ومِنْ قَلَقٍ يُمَزِّقُ كَالحِرابِ
مِنْ صَبْوَةٍ تَكوِي الجَوارِحَ، مِن هَوَى الغِيدِ الكِعابِ(8)
مِنْ شَمْخَةٍ في الرِّيحِ، أَو مِنْ غَوْرِ رُوحٍ لِلعُبابِ
لا تُهمِلِيهِ، فَفِي صَحائِفِهِ يَعِيشُ هَوَى شَبابِي
ولِكُلِّ حَرْفٍ قِصَّةٌ، وبِكُلِّ سَطْرٍ كَأْسُ صابِ(9)!
***
وتَفَرَّقَت فِينا الدُّرُوبُ، وكانَ لَيلٌ كَالسَّحابِ
كانَ اللِّقاءُ بِهِ وَداعًا، طَعْمُهُ مُرُّ المُصابِ!
***
(1): الحَباب: الفَقاقِيعُ الَّتِي تَعلُو الماءَ أَو الخَمْر
(2): الرُّواء: حُسْنُ المَنظَرِ في البَهاءِ والجَمال
(3): السِّماط: ما يُبسَطُ لِيُوضَعَ عَلَيهِ الطَّعام
(4): الوِطاب: جَمْعُ وَطْب وهو وِعاءٌ مِن جِلدٍ يَكُونُ لِلماءِ واللَّبَن
(5): الرَّغاب: الأَرضُ اللَّيِّنَة
(6): الحُباب: الحُبُّ والوَدّ
(7): التَّباب: الخُسران؛ الهَلاك
(8): كِعاب: جَمْعُ كاعِبٍ وهي النَّاهِدَةُ الثَّدْيِ، أَيْ الَّتِي أَشرَفَ ثَدياها ونَهَداها
(9): الصَّاب: عُصارَةُ شَجَرٍ مُرّ