1- النصّ – (من مجموعة مريم رعيدي الدويهي “معزوفات عالقصب للشارع الغريب” – تصدر قريباً عن أفكار اغترابية)
اللي هجرو بيوتهن
وراحو من غير ما يودّعونا…
يا ريت وقفو دقيقه
تا نعطيهن خبز للسفر البعيد…
تحت الشتي راحو
ونسيو المواعيد
وتركو عالمقاعد صدى
وبالزوايا خبريّات عن الطفوله
وقمح وخوابي…
في ناس أخدتهم الحروب منا…
ولشو الحروب؟
وليش الريح غضب
وانكسرت منجيرة القصب؟…
لو كان الحاكم طفل زغير
كانت السما طيارات ورق
والعسكر لعَب…
وما كانو البيوت تركو المطارح
والشوارع غضب…
أنا كرهت الحرب
قدّ ما كرهت أحزانك
وحبّيت السما الزرقا
قدّ ما حبّيت عيونك
يا وطن غالي
من بيادر وسلام…
وشباكك مفتوح عالشمس
ورفوف الحَمام.
***
تعقيب الأديب جميل الدويهي:
تبدا الأديبة مريم نصّها بإشارات إلى الحياة، إيماناً منها بحقيقة دينيّة – فلسفيّة، مفادها أنّ الأرواح تسير في اتجاهين متعاكسين، كما الريح تجري، ثم تعود، وكما الأمواج في البحار. وإشارات الحياة تلك هي: الخبز الذيُ يعطى للراحلين الذين هجروا بيوتهم، ولم يودّعوا. فلعلّهم يحتاجون في سفرهم البعيد إلى طعام. وكانت بعض الشعوب القديمة، كالفراعنة، تضع الطعام إلى جانب الميت، ليأكله إذا جاع.
وأحبّة مريم ذهبوا وتركوا في الأمكنة علامات حضورهم: الصدى، والحكايات،
والقمح والخوابي، فهي بالتأكيد ترفض أن يكون الرحيل قطعيّاً، ولا عودة فيه.
ويتصاعد النصّ، ليوضح لنا في جزئه الثاني أنّ الحروب كانت سبباً للموت الآنيّ:
“في ناس أخدتهم الحروب منّا…
ولشو الحروب؟
وليش الريح غضب
وانكسرت منجيرة القصب؟”…
في كلمات قليلة تبرز الأديبة مريم بشاعة “الحروب”، وتستخدم صيغة الجمع لا المفرد، لكي تؤكّد انتماءها الإنسانيّ الشامل، فكلّ مَن قتلته الحرب، في أيّ مكان من العالم هو قريب لها ومنها. والريح هنا رمز للحرب والغضب، والمنجيرة هي رمز للحياة المتواصلة، التي انكسرت فمات النغم – الحياة.
وفي اعتقادي أنّ اختيار المنجيرة كان اختياراً موفّقاً، فالآلات الوتريّة تعبّر عن تقطّع الحياة، وتقلّبها بين مرض وتعب ومعاناة، وموت… أما الآلات النفخيّة فدلالة على حياة لا تنتهي: “وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود”…
وفي الجزء الثالث من النصّ، وهو الأجمل، والأكثر شفافيّة، تتمنّى مريم:
“لو كان الحاكم طفل زغير
كانت السما طيارات ورق
والعسكر لعَب…
وما كانو البيوت تركو المطارح
والشوارع غضب”…
هذا المقطع من أجمل الشعر الذي قرأته، وإن يكن نثراً، فهو يتخطّى المألوف في تعبيراته، ويختصر عالماً بحاله، بل هو حالة شعريّة شعوريّة فائقة العذوبة، تتوّجها “لو” التمنّي – الطلب”… فما أجمله عالماً يحكمه أطفال، وفي سمائه طيارات ورقيّة، وعسكره لُعَب… لا يتحرّكون ولا يتقاتلون!
وبعد رحلة قصيرة في العالم الواسع، تعود مريم إلى الوطن الصغير الذي لم يفارق مرّة خيالها، ويسكن في حروفها وكتاباتها الجميلة، هذا الوطن يبدو إنساناً يعشقها وتعشقه، تكره أحزانه، وتحبّ عينيه، ولأنّها ترفض الحرب والدمار، فهي تريده بيادر خير وسلاماً… وأن يبقى شبّاكه مفتوحاً للشمس ورفوف الحمام…
ليبق حبرك، مريمة الصفاء والوفاء، قنديل خير، وحكاية الحبّ والسلام، في عالم “لو” كان على صورتك ومثالك، لكان الأنقياء فيه يحكمون ويحلمون.