صادفت امرأة بَصّارة في شارع ضيّق لكنّه مكتظّ بالعابرين، وما كادت تراني، حتّى هتفتْ إليّ قائلة: بعد خطوتين من هنا ستلتقي بالنهار وتسير معه إلى البحر، وهناك سيتركك ويمضي في سبيله، فلا تذرف دمعة على غيابه.
وخطوتُ خطوتين، فرأيت النهار ورافقتُه حتّى اختفى عن ناظري.
وفي اليوم التالي مررتُ بجانب تلك المرأة، فقالت: بعد أمتار قليلة، ستجد الليل، وستسير معه طويلاً حتّى تتعب من السير.
وما هي إلاّ مسافة قصيرة حتّى تأبّطتُ ذراع الليل الذي كان يعرُج في المدينة. وعندما تعبتُ منه وتعب منّي، تركتي عند جذع شجرة ناحلة ومضى في سبيله.
وفي اليوم الثالث، قصدتُ المرأة، لكي أسألها عمّا سأراه في يومي، فقالت: على ذلك المفترق هناك، ستقف بين النهار والليل، فلا النهار يسعدك بأنواره، ولا الليل يحزنك بأسراره، وستبقى هكذا معلَّقاً بين الحزن والفرح، كما أنت معلّق بين الخير والشرّ في نفسك.
وعندما وصلتُ إلى المفترق، رأيتُ الليل والنهار يتصارعان، فوقفت بينهما ومنعتهما من أن يضرب أحدهما الآخر. وكان كلّ واحد منهما يدّعي أنّه الأصل الذي قد جاء منه الآخر.
لقد أصبحتُ الآن كبيراً في السنّ، ولا أزال أقف بين الليل والنهار. وفكّرت أكثر من مرّة في أن أعود إلى الشارع الضيّق، وأتزوّج من تلك المرأة التي أخبرتني بما سيكون لي، لكنّ بعض العابرين أخبرني بأنّها انتظرتني طويلاً، وكانت هي أيضاً تريد أن تتزوّجني، وعندما تأخّرتُ عنها، مضت إلى بلاد بعيدة حيث اقترنت برجل آخر يشبهني، لكنّه رفض الليل، وتأبّط النهار، ولم يقف حائراً بينهما.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع