اشتكى بعض الناس من أنَّ العاصفة التي هبَّت بالأمس على القرية كانت عاتية ورهيبة، فاقتلعت الأشجار، وخرَّبت الحقول، وغمرت المياه المنازل، حتَّى أنَّ أمواج البحر ارتفعت بغضب ودمَّرت زوارق الصيَّادين. قال الناس: مَن يُعوِّض علينا والبلاد قد خرجت للتوِّ من حرب ضروس؟ ومَن له السلطة على العناصر لكي يمنعها من أن تعيث فساداً في هذه الناحية مرَّة أخرى؟
قلت لهم: أنتم غاضبون من الطبيعة، وحين تعطيكم بكرم وسخاء لا تشكرون. إذا كان للواحد منكم حقل غنيٌّ بالثمار والحبوب ورأى إنساناً آخر يقطف من ذلك الحقل، فإنَّه يتشاجر معه وقد يطلق عليه النار فيقتله، ولكنْ كيف يتشاجر مع الطبيعة لو خذلته ولم تعطِه ثمرة واحدة؟ إنَّ البحر وهبكم خيراته، ولولا فضله عليكم لمات أناس كثيرون. أنسيتم أيَّام المجاعة حين لجأتم إلى إله البحر، فركعتم على أعتابه، وطلبتم منه بإلحاح أن ينقذ أولادكم الصغار وزوجاتكم من الموت، فاستجاب لكم بسعادة ومحبَّة، ولمَّا ذهبتم إليه لإلقاء شِباككم، فتح لكم يديه، وفاض عليكم بالجود. في تلك السنة كانت أشجاركم يابسة، وحقولكم تموت في الجفاف، فحنَّت عليكم السماء، وأمطرت ماء كثيراً، في الشتاء أمطرت وفي الصيف، فانتعشت كرومكم، وعاد الخصب إلى حياتكم، فشبعتم ولم تشكروا.
أمِنَ البحر أنتم غاضبون، والبحر هو الأب الذي يرفق بكم، ويحمل قواربكم إلى البعيد، لكي تكتشفوا أعماق المحبَّة؟ أم من الطبيعة وعناصرها تُظهرون الضيق والنفور؟ عاقبكم الله أيُّها المتنكِّرون لفضل السماء عليكم. أنتم تأخذون بفرح ولا تتعبون من الأخذ، ولو كانت موائدكم عامرة، وأهراؤكم مليئة بالحبوب، وجيويكم منتفخة من الذهب والفضَّة، وإذا حان وقت العطاء، ولو كان العطاء قليلاً، تشحب وجوهكم، وترتعش شفاهكم، وتيبس
ألسنتكم، وتكيلون الشتائم لمن يطلب منكم. وقد بلغ بكم الشقاء حدّاً جعلكم ترمون بالطعام إلى الكلاب والقطط وتمنعون اللقمة عن ابن الإنسان إذا جاء إلى بيوتكم زائراً.
نظـر الناس واحدهـم إلى الآخـر وقالوا بغضب: أنت تقسو علينا أيُّها الكاهن، وتفضحنا، وتُظهر عيوبنا بوقاحة… هلاَّ خفَّفت من حدَّة عتابك، ونصحتنا بالكلام المفيد؟
قلت لهم: إذهبوا بسلام يـا إخوتي إلى البحر، فاطلبوا منه المسامحة، لأنَّ كلَّ قطرة ماء تشربونها هو الذي منحها إليكم… إذهبوا إلى البحر وتأمَّلوا فيه طويلاً، لكي تعرفوا أنَّ العظيم هو الذي يعطي من غير حساب، بينما تعطي الساقية الشحيحة وهي خائفة على نفسها من الزوال. كلُّ قطرة في البحر لها قصَّة مع الزمان والإنسان، فاسألوها لتخبركم عن أسرار الماضي، وأحلام المستتقبل. سيروا على الماء وأنتم تغمضون أعينكم، ولا تخافوا لأنَّكم لن تغرقوا، ولو كانت الأمواج عاتية، فالبحر سيحملكم على أحضانه إلى موانئ السلام والاطمئنان. خذوا من البحر الفضيلة والخير والرجاء وأنتم تحتاجون إليها، بعد أن نبشت الحروب أرواحكم وأكلتها النار… علِّموا أولادكم أن يكونوا مثل البحر، وإذا لم يكونوا مثله، فما هم إلاَّ ظلال مندثرة على مفارق الطريق. واذهبوا أيُّها الناس إلى عناصر الطبيعة وقدِّسوها، فصدقاً أقول إنَّ تلك العناصر هي الأمُّ الحبيبة الرقيقة التي تبلسم جراحكم وتهدهدكم في الليالي الظلماء. وكلَّما قطفتم زهرة من حقل، أو شربتم قطرة ماء من نبع رقراق، وكلَّما شعرتم بالتعب أو بالراحة،
غَنُّوا وافرحوا لأنَّ روح الله تدخل فيكم، فتتجدَّدون وتُبدعون. كلَّما جمعتم الحبوب عن بيادركم، سبِّحوا الربَّ بأصوات عالية، واعزفوا على المزمار، وتطيَّبوا، واذهبوا إلى منازل الفقراء، فاعطوهم من بيادركم لكي يتمَّ الحصاد، فتأكلوا وتشبعوا وتعيشوا بسعادة. وإذا رعدت السماء، وهبَّت العاصفة، فافتحوا نوافذكم لكي تدخل إليكم الريح، فترتاح على موائدكم هنيهة قبل أن تمضي في طريقها، ولا تظنُّوا أنَّ العاصفة ستبقى عندكم زمناً طويلاً، فالعاصفة لا تتوقَّف كما تتوقَّف حياتكم بالموت، ولا تمرض، ولا تحزن كما يصيبكم. إنَّها تدور حول نفسها كما يدور الراقصون ثمَّ تتابع سيرها إلى البعيد البعيد. نعم أيُّها الناس، يجب أن تحبُّوا الحرَّ والزمهرير، الزهور والأشواك، المطر والجفاف. أحبُّوا كلَّ شيء رسمته يد الله. وإذا فعلتم ذلك، فإنَّ مواسمكم ستفيض خيراً، وأكياسكم لن تفرغَ مهما قست الأيَّام والدهور.
***
* مشروع الأديب د. جميل الدويهي ” أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع