“العازف الصغير” لجميل الدويهي

مرّت أزمنة منذ أوصيتُ أبناء الناحية التي كنت أسكن فيها بأن يصنعوا السلام وأن يدعوه يعيش ويكبر في بيوتهم وشوارعهم. وقلت لهم، كما أذكر: “إذا رأيتم سلاماً يتجوّل في دروبكم وتحت أشجاركم، فلا تقولوا له: أنت غريب… بل سلّموا عليه وحدثوه واسهروا معه، واصغوا إلى كلّ كلمة يقولها”…

وقلت لهم أيضاً: “اصنعوا سلاماً يا إخوتي، وليكن سلاماً يدوم لأبنائكم وأحفادكم، وازرعوا في كلّ حقل شجرة سلام، وأضيئوا في كلّ بيت شمعة للسلام، وصلّوا صلاة المجد لإله السلام”…

وعلمتُ فيما بعد أنّ بعضاً من صحبي الذين كانوا يأتون إلى المعبد قد عملوا بوصيّتي، وذهبوا ليصنعوا السلام، ولكنّهم رجعوا خائبين ومرهَقين، وقصدوني لكي يخبروني بما حدث معهم ويطلبوا مشورتي.

قال أحدهم: لقد فعلنا يا سيّدي كما أوصيتنا، فرأينا سلاماً يتجوّل في شوارعنا وتحت أشجارنا، ولمّا ذهبنا لنسلّم عليه وندعوه إلى بيوتنا، فرّ من أمامنا، وقال لنا: لست أعرفكم، فلماذا تأتون إليّ؟

وقال رجل آخر: ذهبتُ لكي أزرع في حقلي شجرة للسلام، وبعد حين رأيتها يابسة، والغربان تنعق على أغصانها، فحزنتُ عليها، وقلت في نفسي: كيف تيبس شجرة وضعتها في تربة جيّدة وسقيتها ماء صافياً؟

وقالت امرأة: وأنا أيضاً حاولت أن أضيء في منزلي شمعة للسلام، فكلّما

أشعلت عود ثقاب كانت تهبّ عاصفة هوجاء، فتخلع النافذة، وتنطفئ شمعتي قبل أن يغمرها النور.

وعندما انتهى أبنائي الثلاثة من كلامهم، قلت لهم: سامحكم الله أيّها الأحبّة  الجاهلون، وهل أنتم تختلفون عن أولئك الذين يسمعون بآذانهم، ويرون بعيونهم… ولا يفهمون ماذا وراء الكلام؟

نظر الأحبّة الثلاثة الواحد إلى الآخر وكانوا لا يعرفون ما أقصده من كلامي، فإنَّ الحكمة التي وصلتُ إليها ما تزال بعيدة عن مداركهم. ولكي أشرح لهم ما كنت أعنيه في وصيَّتي، قلت لهم: ليتكم تفعلون مثل ذلك الفتى الشجاع الذي صنع سلاماً لأهله.

قالوا بتعجُّب وهم يقلبون شفاههم: ومَن هو ذلك الفتى؟

قلت: إنَّه من بلاد بعيدة كانت فيها حرب بين شعبين، وكان ابناً لرجل فلاّح، وقد أعطاه الله موهبة العزف على المزمار، فكان كلّ صباح يبدع في عزفه، فتصغي الأرض والسماء، وتركع الأشجار بخشوع لكي تمجّد الله. ولكنّ العازف الصغير كان يرتعد ويبكي عندما يسمع أصوات الرصاص في مدينته، ويهرول إلى منزله ليحتمي في أحضان أمِّه.

وذات ليلة خطرت للفتى الصغير فكرة، وكانت الحرب قد أكلت الأخضر واليابس، وقتلت أناساً كثيرين. وكانت بين المتحاربين ساحة صغيرة، فأخذ الفتى آلته إليها وأخذ يعزف من غير توقّف. عزف في الليل والنهار، وفي الصيف والشتاء، وكان المتحاربون ينظرون إليه متعبين، ولا يجرؤون

الساحة على إطلاق الرصاص خوفاً على النغم أن يضيع، وانتظروا طويلاً أن يغادر لكي يعودوا إلى القتال، ولكنّ انتظارهم طال، حتّى ضجروا وصدئت بنادقهم، فذهب بعضهم إليه وسأله أن يخلي الساحة لهم. فظلّ يعزف وهم ذاهلون لرقّة النغم، وعاجزون عن مقاومة النشوة التي تملّكتهم. وجاء رجال آخرون من الجهة الثانية، فقالوا له: أما تعبتَ من العزف؟ لقد تلفتْ أسلحتنا ونحن ننتظر أن تغادر هذه الساحة. ولكنّه لم يجب، بل كان  ينفخ في مزماره ويدور بينهم، وقد أخذ منه الطرب كلّ مأخذ. وما هي إلاّ دقائق حتّى أخذوا يرقصون ويتمايلون، وقد عانق أحدهم الآخر. ولم يعودوا يتحاربون بعد ذلك. ومرّ في المكان تجّار يحملون بضاعتهم على عربات تجرّها خيول فرقصوا. ومرّ كهنة كانوا عائدين للتوّ من صلواتهم فرقصوا أيضاً، وجاء أطفال  فرقصوا مع الكبار،  وكانت نساء يعملنَ في حقولهنّ فهرولنَ إلى الساحة ورقصنَ. وتوافد أناس من كلّ جهة لكي يرقصوا…

كنت أخبر الرجلين والمرأة تلك القصّة وهم لا يصدّقون ما يسمعون. قلتُ لهم أيضا: إذا كنتم تبشّرون بالسلام، فلا تتعبوا، ولا تيأسوا، ولا تقولوا إنّ الطريق طويل، فمهما كانت رحلتكم صعبة لن تكون أصعب ممّا تجرُّه الحروب من ويلات ومصائب. وإنّ لغة السلام لا تقولها الألسن بل الأرواح التوّاقة إلى الانتصار. كونوا مثل الفتى الذي جعل من عزفه على المزمار نغمة للحبّ، وتلك النغمة السماويّة هي التي محت آثار الليل، وعطَّلت البنادق، وجعلت الوردة تتمرّد على غضب الشتاء.

***

*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد