قلتُ للناس في إحدى القرى البعيدة: الظلام والنور توأمان لا ينفصلان، وُلدا معاً ويخلُدان معاً. أنتم تنظرون إلى النور وتحبُّونه لأنَّه يكشف لكم الطريق، ويهديكم إلى رحاب الطبيعة، فتتمتَّعون بالأودية والهضاب والبحار والسماء. وأنتم تقَّدِّسون النور الذي توفِّره الشمس لكم لأنَّكم فيه ترون زوجاتكم وأبناءَكم ومَن تحبُّون. وأنتم تخافون من أن يذهب النور من عيونكم لأنَّكم تضطربون من وحشة الدروب حيث تكمن الغيلان والجنُّ فتخيفكم وترعبكم. وأنتم تُعلِّمون أبناءكم على حبِّ النور لأنَّ الله نور، وقد جاء ابن الإنسان نوراً للعالم، وجاء الأنبياء والرسل والعظماء من أهل الفكر لينشروا النور في كلِّ مكان. ولكنَّ نور الفضيلة يختلف عن نور الشمس، فنور الفضيلة لا ترونه بالعيون المجرَّدة أمَّا نور الشمس فترونه. نور الفضيلة يخرج من القلب إلى القلب، ومن العقل إلى العقل، ونور الشمس يأتي من خارج القلب والعقل وتتلقَّفه العين برغبة. وصدقاً أقول: إنَّ الذي يكتفي بنور النهار لا يــعـــرف الطريق في الليل، أمَّا الذي يفرح بنور القلب والعقل، فيختفي الظلام من طريقه وتتبدَّد الحُجب.
أنظروا إلى العميان كيف يسيرون ويهتدون بأنــــوار العقل والقلب، واسألوهم عن شعاع الشمس أو ضوء المصباح أو بصيص الشمعة، سيقولون لكم مستغربين إنَّ الشمس والمصباح والشمعة هي أشياء غير موجودة، وإنَّ ألفاظاً مثل النور والضوء والسراج هي ألفاظ غريبة عن عالمهم المظلم، ولكنَّهم سيقولون لكم أيضاً إنَّهم يبصرون أنوار القلب والعقل، ولولا تلك الأنوار لأصبحت حياتهم ظلاماً فـوق ظلام وعتمة فوق عتمة.
وقد لا يفرح بعض الناس بالنور الذي يأتي إليهم من خارج أنفسهم، ولذلك ترونهم مكتئبين يائسين، ويفضِّلون الموت على الحياة، وقد يُقدم هؤلاء على الانتحار، فأين هو النور الذي يعيد الأمل والرجاء إلى نفوسهم المقهورة؟ وما هي القوَّة التي تستطيع أن تشدَّ بهم إلى فوق، أي إلى محبَّة الحياة؟ ولماذا لا يندفع إلى الموت أولئك الذين فقدوا النور الخارجيَّ واكتفوا بالنور الآتي من أعماق أعماقهم؟
وقد يبشِّركم مبشِّرون بالنور، وأرواحهم ظلام، وقد يدعونكم إلى الفضيلة وهم مجرمون، ونمَّامون، وأفَّاكون. وقد يأتي إليكم مبشِّرون كذبة يحملون الكتب الصفراء، ويدَّعون بأنَّ قوَّتهم الخارقة ستُحوِّل الظلام إلى بياض ناصع، فلا تصدِّقوهم، لأنَّهم يفعلون السحر والشعوذة. قولوا لهؤلاء: مَن أرسل بكم إلى بيوتنا لكي تنظِّفوها وبيوتكم مليئة بالجراثيم؟ وكيف تجرؤون على نصحنا وأنتم في حاجة إلى النصح والمساعدة؟ وقولوا لهم: إنَّ الله وهبنا النور منذ
الولادة، ونحن نحتفظ به في صلواتنا وأفراحنا وأحزاننا، ونحن عندما نقع في الخطيئة نكون قد نسينا أن نضع زيتاً في المصباح، ولكنَّنا في اليوم التالي ننتبه إلى ما فعلناه، فنحضر زيتاً صافياً لكي نشعل مصباحنا من جديد. الخطيئة ليست ضدَّ النور، بل هي أزمة في قلب النور. وعقاب الخطيئة لا ينبغي أن يكون موتاً أبديّاً، بل مسامحة وشفقة على الروح التي غفت ولم تنتبه إلى أنَّ الظلام قد أتى على حين غرَّة. نعم يا إخوتي، إنَّ النور أعطانا الحياة، والظلام لا يمنع عنَّا الحياة.
ستقولون الآن: إنَّني أحضُّكم على الخطيئة، وأبــــرِّر لكم فعل الخطأ. وتفكيركم خاطئ، فأنا أشجِّعكم على الانتباه لكي لا تقعوا في تجربة، أمَّا إذا فشلتُم فلا تيأسوا، لأنَّ الله يحبُّ الإنسان.
اسكبوا مـن النـور فـي أرواحكم لتصير مـَعـابد مقدَّسة، وطهِّروا قلوبكم بفعل الخير، فالخير يزيد النور نوراً، ويزيح الظلام، وبه يسامحكم الله على أخطائكم الكثيرة. وإذا كنتم تحبُّون النور الذي ينبثق من خارجكم فحسناً تفعلون، لأنَّكم أفضل ممَّن يضع يده على عينيه لكي لا تدخل إليهما تباشير الصباح. ولكن اعلموا أنَّ النور الخارجيَّ لا يكفي لكي يضيء لكم. أمَّا الذين يلعنون الظلام، فانفضوا غبار أرجلكم على أعتابهم، ولا تزوروهم مرَّة أخرى، لأنَّهم يكرهون ما خلقه الله لهم، ولأنَّهم أنانيُّون يفرحون بالأخذ ولا يفرحون بالعطاء، ولأنَّهم يقبِّحون السواد، وهو يسيطر على أعماقهم الخفيَّة… هؤلاء يحبُّون ما تفرح به ذواتهم، ويرفضون ما لا يسعدهم. أمَّا أنتم، فاغتبطوا بالفجر وارقصوا مع نسيم الليالي،
وغنُّوا في النهار والليل على صوت المزمار، وتعلَّموا أن تضيئوا مثل الكواكب في العتمة حيث ينحسر الضياء، وستبقى غبطتكم نغمة أبديَّة لا تسكتُها الأيَّام والعصور.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع