“الحُبّ الخالد” لجميل الدويهي

 

قال ساعي البريد لحارس الجسر: هل تعرف أنّني كلّما مررتُ من هنا، أحملُ معي رسائل حبّ؟

قال الحارس: كيف تعرف ذلك؟

قال: أشعر أنّ في جعبتي هذه كثيراً من حنين العشّاق وكلماتهم المجبولة بشغف ودموع، وتكاد الرسائل تطير في الجوّ  كما السنونوّ في عزّ الربيع.

نظر الحارس إلى السماء المكفهرّة، وعبّرَ عن امتعاضه من الخريف، قائلاً: هل رأيتَ سنونوة ترقص تحت المطر؟ إنّ كلّ شيء له نهاية، كما حياة الناس، كما الكتُب، والأغاني، والدروب، وتلك الشجرة الصفراء التي تنحت فيها الريح أشكالاً، فترتعش من الخوف والرهبة…

بدت على وجه ساعي البريد علامات التأثّر، لكنّه استدرك الموقف، وتابع كلامه: ستعرف يوماً يا أخي أنّ الخريف له أيضاً أغنيته العذبة… فانظر إلى بقع الثلج التي تجمّعت تحت الجسر، على ضفّة النهر، فكلّما ذابت ارتفع الماء قليلاً قليلاً، ونحن لا نكاد نشعر بأنّ العطاء من غير مقابل، هو فرح وغبطة للنهر، بينما هو يمضي في رحيله الأبديّ إلى البعيد… وأنا محظوظ جدّاً لأنّ الأبواب المقفلة علّمتني أنّ الانتظار نعمة، وانّ الصبر من الفضائل النبيلة… وعندما أموت بعد حين، سيقولون: مات ساعي البريد الذي كان ينقل أشواق المحبّين إلى حبيباتهم، ولن ينتبه أحد إلى أنّني كنت أحمل أيضاً أخباراً عن العذاب والموت.

فكّر حارس الجسر قليلاً، ثمّ قال: أعتقد أنّك على خطأ، ففي هذا اليوم بالذات، ليس في جعبتك رسالة حبّ واحدة؟

مستحيل، أجاب الساعي، وهو يعبس… لا يمكن أن يحدث هذا.

  • لقد حدثَ… ولو فتحتَ جميع الرسائل التي معك، فلن تجد فيها كلمة عشق واحدة… ولكي تصدّقَني، فاذهبْ إلى المدينة، واطرق على أبوابها، واسأل الناس عن الرسائل التي معك، وهم سيؤكّدون لك أنّ ما أقوله صحيح.

غادر ساعي البريد، وهو منفعل ومتضايق، ويُنكر في قرارة نفسه ما سمعه من حارس الجسر. وعندما عاد في المساء، كان الحارس لا يزال في عمله، فخفّ إليه من نقطة حراسته وسأله: هل أعطيتَ الرسائل لأصحابها؟

أجاب ساعي البريد وهو حزين: نعم… نعم…

  • وهل كانت فيها رسالة حبّ واحدة؟

-كلاّ… أنت محقّ. لست أعلم كيف تحوّلت حياتي فجأة إلى صفحة رماديّة… ولم أتوقّع يوماً أن تفرغ حقيبتي التي حملتها أربعين عاماً، من حكاية حبّ أو موعد بين حبيبين.

قال الحارس: إنّ جميع سكّان هذه المدينة لم يعرفوا الحبّ منذ مدّة طويلة. فقد غلبت المادّة والمصالح على عقولهم، وتعطّلت أرواحهم… وساد عليهم الطمع والغرور والشرّ… وتحاربوا… ووصل بهم الجشع إلى أن اصطادوا الحمام الزاجل الذي كان يهدل ويملأ الفضاء طرباً… ولو كان فيهم سلام، لما رأيتَني أحرس هذا الجسر، وأقطع الطريق على اللصوص والملاعين… نعم يا صاحبي… لقد كنتَ أكثر الناس خداعاً لنفسك. والحقيقة أنّك كنت تحمل في كلّ يوم رسالة واحدة فقط، هي من شابّ وسيم، طيّب الروح، يدعو إلى الخير والمحبّة بين البشر… ويكتب الشعر. وكان يرسل معك من قصائده إلى حبيبته، وكانت هي أيضاً تبعث إليه برسائل. ولكنّ الشابّ كان أوّل أمس في رحلة، فتعرّض لحادث مميت في البرّيّة، ورحل من هذه الدنيا مثلما رحل صالحون قبله… فلم يعد أحد يكتب لأحد، وتحوّل الحبر إلى ماء، وأصبحتَ أنت خائباً ولا تعرف أنّك خائب، وتوزّع أوراقاً خالية من المعاني، إلى أناس لا يقرأون ولا يكتبون… فكم كنت واهماً، وتبيع نفسك أحلاماً لا تتحقّق!

وعلى حين غرّة، شاهد الرجلان فتاة حافية القدمين، نحيلة الجسد، ممزّقة الثياب… شعرها طويل، وغير مرتّب، وعيناها كبيرتان… تطلّ من طريق ترابيّ ضيّق… كانت تهرول بخطى متعثّرة نحو ساعي البريد وهي تبكي، وتقول: أرجو منك يا سيّدي أن تحمل هذه الرسالة إلى حبيبي، كما كنت تفعل في السابق، فإنّني لا أصدّق أنّ المحبّين يموتون، ولا أعترف بأنّ الحبّ له نهاية.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي- سيدني  النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد