“المسرحيّة” لجميل الدويهي

 

فشل الكاتب الشهير عبد الفتّاح البصيريّ في تقديم المسرحيّة التي أمضى وقتاً طويلاً في كتابتها، وتعاون مع المخرج حسّان الذهب لإنجازها بأفضل حلّة ممكنة. فبعد ستّة أشهر من التمرين، حدث ما لم يكن في الحسبان. وكان لدى البصيري قلق وهواجس، عبّر عنها مراراً في الأسابيع الماضية، واعتبره الممثّلون متشائماً…

في العرض الأوّل للمسرحيّة، طلب المخرج من الممثّلة المخضرمة سعاد الأمير أن تلقي كلمة مقتضبة قبل فتح الستارة… وما كادت تصعد إلى الخشبة، حتّى انقطع التيّار الكهربائيّ، وساد هرج ومرج. ففي تلك البلاد من النادر جدّاً أن تنقطع الكهرباء. ولطم البصيري وجهه، وارتبك… وطلب المخرج من أحد التقنيّين أن يكتشف العطل ويصلحه فوراً،  وإذا عجز عن ذلك، فعليه تشغيل المولّد الذي استأجره طاقم المسرحيّة للحالات الطارئة، فقد بدأ  المشاهدون يتململون، ومن حقّهم أن يطالبوا باسترجاع ثمن البطاقات التي اشتروها، وكانوا يعِدون أنفسهم بمشاهدة مسرحيّة من الطراز الرفيع.

وفعلاً كان الجمهور متضايقاً. ما عدا الذين يكنّون الاحترام للبصيري، ويقدّرون مكانته باعتباره كاتباً عظيماً، وقد أنتج في الماضي العديد من الكُتب والمسرحيّات التاريخيّة الجليلة.

قالت امرأة من الحاضرين: ماذا حدث؟ لعلّ هذه العتمة جزء من العرض!

وقال رجل: مهما حدث أيّتها السيّدة، فإنّني لن أغادر، ولو أمضيت هنا يوماً كاملاً أنتظر عودة النور.

وقالت امرأة أخرى: لو خرجتُ من هنا وسألني أحد عن المسرحيّة، لقلت إنّها في غاية الروعة، ولو لم أشاهد منها إلاّ هذا السواد الذي يطبق علينا من كلّ جانب!

ووراء الستارة، كان طاقم العمل في صدمة وذهول. وحاول التقنيّ أن يهتدي إلى سبب انقطاع الكهرباء، فلم يفلح… واكتشف أيضاً أنّ فاعلاً مجهولاً قد وضع مسماراً من الحديد داخل المولّد، فلمّا أداره، تعطّل واحترق محرّكه.

قال الكاتب للمخرج، وهما يضربان أخماساً بأسداس: هل عرفت الآن لماذا كنت خائفاً منذ البداية؟

أجابه المخرج: نعم… نعم… كنتُ عاتباً عليك، واتّهمتُك بالتشاؤم… صدّقني يا أخي إنّ الظلام جزء من مسرحيّة النور التي كنّا سنقدّمها. ويمكنني أن أبرهن لك أنّ الظلام أهمّ من النور في نظر الكثيرين… فلو نجحت المسرحيّة، لما تحدّث عنها أحد، ولتجاهلتها وسائل الإعلام والنقّاد، وربّما نشروا عنها في زاوية “لم يحدث”. وغداً ستعرف بنفسك كم أنّك مهمّ، ونحن أيضاً مهمّون، عندما يكتبون عنّا وعن فشلنا الذريع.

نظر الكاتب من وراء الستارة إلى الصالة المغمورة بليل حالك، ما خلا بعض القدّاحات التي كانت تشعّ كبصيص أمل، وسمع ثرثرة الحاضرين وهم يتحدّثون بأصوات منخفضة، كما جلبة بعض المغادرين الذين لم يطيقوا البقاء في هذا الجو البغيض. وقال وهو يرخي أصابعه المتعبة عن الستارة: إنّ ما يحدث الآن هو جزء من الحياة، والحياة نفسها مسرحيّة، أبطالها متناقضون… ونحن هنا في مسرحيّة صغيرة، هي من ضمن المسرح العامّ الذي لا يتوقّف عن الحركة… لست أنا الكاتب الوحيد في المسرحيّة، ولا أنت المخرج الوحيد، فهناك رجال ونساء في الخارج يكتبون أيضاً، ويُخرجون النصوص الغريبة، بعضهم وجوههم مكشوفة، والبعض الآخر يخبّئون وجوههم وراء أقنعة.

وفي اليوم التالي، نشرت الإذاعة الرسميّة، في برنامجها الثقافيّ، خبراً مفاده أنّ مسرحيّة النور ليست حقيقيّة، وتبيّن أنّ الكاتب عبد الفتّاح البصيري قد باع الناس بطاقات وهميّة، فلم يحضر الممثّلون، ولم يكن هناك نصّ في الأساس… ووصفت الإذاعة ما حدث بأنّه عمليّة غشّ وخداع موصوفة، فقد اشترى عشّاق المسرح بطاقات بثمن باهظ، وحضروا مسرحيّة تراجيديّة عنوانها “السواد الأعظم”.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

 

اترك رد