الصيّاد آتٍ، ماتت الريشةُ والكلمات

 

د. علي حجازي

 

قبل دخولِ ذلك الصيّاد، كانت الطبيعةُ تعرض لوحتَها الأجمل:

شجرةٌ وارفةُ الظلالِ تُشرّعُ أعطافَها للريح، تلوّح للعصافير أغصانُها، الشمسُ تبعث الدفءَ في أفيائها. الأوراق تتراقص، تقبّل ذلك البلبل الغرِّيد، تخفي جسمه الصغير عن العيون، عيون عشّاق المنون، وهو يشدو للحب، يرتّل للحريّة أسمى الألحان والأنغام والكلمات.

الشجرةُ تفيء على عاشقين يرسمان لون المستقبل الآتي سعيداً بالقبل والهمسات.

على مسافة من أنياط قلبها راعٍ يعزف لأغنامه ، على شبابة من قصب حنون، لحن العطاء فتدرّ حليباً وشفاء.

هناك، ارتقى الشاعر صهوة صخرةٍ مطلّة غير بعيدةٍ، وأطلق العنان لأفكاره التي سرحت إلى الوادي، وادي عبقر التي أومأت إليه هامسة” استحلب من روح الطبيعة البكر أحلى المفردات.

على مقربة من ذاك الشاعر رسام، بدا منشغلاً باختيار الألوان البهيّة التي أفاض به الدحنون  ، النرجس والبيلسان.

بين هذا وذاك وتلك، كانت الكائنات تكمل اللوحة، فالفراش هائم سكران ، عاشق يستحمّ بالنور، والنحلات تطنّ نشوانةً بالرحيق، وجماعات النمل منهمكة تجمع ما تيسَّر قوتاً لشتاءٍ آت.

غريباً عن لوحة الحياة بدا وهو يحمل شارة الموت، بندقيّة عابقة فوّهتها برائحة البارود، وجعبة تتحلّب منها دماء قانية على ريش عصافير صغيرة، رؤوسها منكَّسة إلى الأرض تشكو جهل هذا الصياد المزهوّ بفعلته هذه، والذي يظنّ نفسه الآن فارس الهيجاء.

كلّ ما فيه قاتمٌ، لباسه المنتقى لونه يحاكي بزّات الجنود في الميدان. لعلّه يعتقد نفسه خائضاً معركة مع الطيور.

لمّا صوّب إلى الشجرة ارتفعت أصوات اتّحدت في صوت:

–        توقّف، ماذا تفعل أنت؟

–        ما شأنكم بي؟ العصافير مطلبي ومقصدي.

–        لا، فهذه المخلوقات الجميلة تكمل لوحة الحياة، دعها وشأنها، صغيرة هي إلّا إذا…؟

–        إلامَ تشير أخبرني؟

–        أجائع انت؟

–        لا، والصيد هوايتي المفضّلة.

–        ألا يشبع غريزتك المفضلة سوى القتل؟

–        إنه الصيد، أحبّه، أعشقه، أهواه، فأبي علّمني كيف أصوّب جيداً، وأطلق النار.

–        هذه عصافير صغيرة يا هذا، صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع.

لم يجب، شهر سبطانة البندقية، صوّبها إلى الشجرة، إلى مصدر التغريدة الجميلة، وانفجرت الطلقة التي انفجر الجميع بعدها بالبكاء، كانت أصواتهم ملوّنة بلون الحداد.

كسر الرسام ريشته، وأسرع يحتضن ريشة ملوّنة لبلبل صغير سقط لتوّه ومات.

أقفلت الشبّابة آخر ثقوبها، خانقة أنفاسها على الحياة .

حملت الريح أوراق القصيدة فالتقطها المغني وراح يشدوها ممزوجة بالحزن:

–  الصيّاد آت

حلّ الموات

أما من رادع له قبل الفوات؟

الصياد آت

حل الموات

أمَا من مشرّع يقي عصافير الحبّ هذا البلاء؟

الصياد آتٍ حلّ الموات

الصياد آتٍ حلّ الفناء

زال البقاء، سكن البلاء، حلّ الفناء حلّ الفناء

19 /2/ 2022

اترك رد