كان مسافراً غريباً في قطار مع ركّاب غرباء لم يلتقِ بأحدهم من قبل. وجوه صفراء، وأفواه تتحرَّك، وتتثاءبُ، وعيونٌ غلبها النعاسُ، بعد عصورٍ من الأرق المرير.
قطار مسرع في كلّ الأمكنة، ولكنّه ذاهب إلى لا مكان. ذاهبٌ في الفراغ، حيث تصمتُ الأرواحُ، وتتنكَّر في ثياب العدم، فيَسمع صرير عجلاته الحديديّة، ويَرى دخاناً أسود يتصاعد في الفضاء، ويَدخل إليه من نافذة مفتوحة سعال الريح، فيتسلّل إلى صدره كخنجر.
نظر المسافر الغريب إلى تذكرة الرحلة، فوجدها بيضاء. لا كتابة عليها.
تساءل: لماذا لم يكتبوا شيئاً على التذكرة؟
ثمّ فكّر بصوت مسموع: قد يأتي المُراقب في أيَّةِ لحظةٍ، فينظر إلى تذكرتي، ويغضب.
تنفَّسَ بعمقٍ، عندما خُيِّل إليه أنّ التذكرةَ صحيحةٌ، لكنَّه لا يُحسِن قراءةَ ما هو غير مكتوب. أمَّا الرحلة فلن تنتهي، والمعاناة لن تنتهي أيضاً.
القطار كعمرِه، والعجلات المستعجلة سنوات غيابه، والسكَّةُ الممتدَّةُ إلى البعيد، ليستْ إلاَّ خطوطاً تركها الزمن في تجاعيد وجهه.
أين سائق القطار؟ يجب أن يسأله عن محطَّة الوصول.
ركض إلى العربة الأولى، حيث يهدر المحرِّك، ويحشرج الحديد، فلم يجد سائقاً واحداً يصغي إلى كلماته المتوسِّلة. ولم يصدِّق ما تراه عيناه، فصاح بصوت مرتعد:
هل السائق هنا؟
لم يسمع جواباً، فقال بتعجُّب: كيف يسير قطار بدون سائقه؟!
ارتجف قلبه، واصفرّ وجهه الناحل.
عاد إلى العربات الأخرى يتفقّد فيها الركّاب، فاطمأنّ إلى وجودهم في مقاعدهم: هنا رجل عجوز يغمض عينيه فوق شاربين أبيضين. لعلَّه مزارع عائد للتوّ من عمله في البرّيّة، وقد غفا على أحلام الفصول المتعاقبة. وهناك امرأة شابّة تضع ابنها الصغير على ركبتيها، وتطعمه فطيرة من الجبن. وهناك في المقعد المجاور رجل هنديٌّ يقرأ في جريدة، فلا يظهر وجهه. وهنالك شرطيٌّ يبحث في ملامح الناس عن شوارع مفقودة، وقتلَة أبرياء…
كانوا جميعاً لا يتكلَّمون، بل يبحرون في أفكار مختلفة، ويصطدمون بالفراغ.
سألهم المسافر الغريب: هل تعرفون أين سائق القطار؟ هل يعرف أحدكم شيئاً عنه؟
لم يردّوا.
فسألهم أيضاً: أليس لهذا القطار اللعين سائق؟
ظلُّوا ساكتين.
ازداد تعجُّبُه، فرفع صوته قائلاً: هل يقود أحد هذه الآلة القبيحة؟
التفتت إليه المرأة التي تحمل الطفل، وكان في عينيها بريق غضب. لم ترفع صوتها، لكنَّها همست في أذن الهنديِّ الذي يجلس بجانبها:
ما باله يسأل عن السائق؟!
ازداد المسافر الغريب خوفاً. فقد تراءى له أنّ المرأة ليست من لحم ودم، بل إنّ جميع الركّاب ليسوا من لحم ودم أيضاً.
صرخ إليهم: هل أنتم بشر؟
تأمَّل في وجوههم قليلاً، ثمَّ أردف: كلاَّ… أنتم أرواح في قطار لا يتوقَّف، فكيف يعيش المرء مع أرواح؟!
فكَّر أن يقفز من القطار، لينقذ نفسه من الرحلة. لكنّ الأبواب مقفلة.
اقترب من نافذة، وقال في نفسه: لماذا لا أحطِّمها، وألقي بنفسي إلى خارجها؟ ولكنَّ القطار مسرع جدّاً، والهروب مقبرة.
فجأة، اصطكَّت عجلات القطار، وارتفع فحيحه في الهواء، وخفَّت سرعته. ثمَّ توقَّف عند محطَّة تغصُّ بالركَّاب، فانفتحت أبوابه، ونزل منه مسافرون، وصعد آخرون.
أمَّا هو، فقد انقشع غبار الخوف عن عينيه، فرفع حقيبته بعزم كبير، وترجَّل بخطى متعثِّرة، ثمَّ راح يمشي على الرصيفِ المبلَّلِ بمطرِ الخريفِ، غير مصدِّق أنَّه وصل إلى مكان.
كانت أمامه تلك المرأة، وولدها الصغير، ومعهما الرجل الهنديُّ الذي
كان يقرأ الجريدة.
قالت المرأة لطفلها، وهي تبعد الذباب عن فمه: هل أعجبتك الرحلة في القطار؟
أجاب الولد: جميلة، لكنَّني كرهت ذلك الرجل القبيح جدّاً، الذي كان يسأل عن سائق القطار.
نظرت المرأة إلى الهنديّ الذي يرافقهما، فقالت: ألا تحتقر معي، يا شانتـي، أولئك الناس القبيحين جدّاً، الذين لا يعرفون أنَّ السائق هو الله.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع