أنا أطلقتُ النار على عبُّود الصرُّوف، وأصبتُه في ذقنه.
لا أنكر عليك، يا حضرة المحقِّق، أنَّني لم أكن أمزح معه… ولو لم يكن حظُّه من السماء لكانت أمُّه ناحت عليه.
قلت له دائماً: يا أخي عبُّود، لا تقترب من الوردة! هذه الوردة ليست لك. لا تقطف منها زرّاً… لا تتنشَّق عطرها. هل هي وردتك أم وردتي؟ قل لي يا حضرة المحقِّق: هل هي وردته؟!
-كلاَّ. إنَّها وردتك. أليست في أرضك؟
-في أرضي، وأرض جدِّي وأبي.
-وهل كان يجب أن تحاول قتله؟
-إنَّها غلطته. عبُّود لا يسمع. لقد أعيتني الحيل في إقناعه بالابتعاد عن وردتي.
-أكانت بينك وبينه عداوة سابقة؟
-أبداً، ما عدا مشكلته مع وردتي. كان يشتهيها، فيقطف أزرارها الجميلة، ولا يرحم صراخها.
-ماذا؟!
-لا يرحم صراخها.
-تقصد أنَّ وردتك تتكلَّم؟
-نعم… وتتألَّم أيضاً. كنت أسمعها تصرخ به: ابتعد عنِّي يا شيطان!
-كانت الوردة تقول ذلك؟!
-أقسم لك… إنَّ وردتي تشعر كما نشعر أنا وأنت.
-إسمع يا سعيد النجَّار! لم آتِ إلى هنا لأصغي إلى روايات ملفَّقة. لقد استدعتني قيادة المنطقة من بيروت، لأحقِّق في محاولة قتل، وأنت تحدِّثني عن وردة ليس لها مثيل إلاَّ في الخيال.
-ماذا أفعل لكي تصدِّقني؟
-لا شيء. أريد أن أعرف منك لماذا أطلقت النار على عبُّود الصرُّوف؟ إنَّ الأمر لن يستغرق طويلاً: رواية منك أستطيع تصديقها، وينتهي التحقيق.
-لقد أخبرتك بالحقيقة.
-عبُّود يقول إنَّك على خلاف مع زوجته.
-هل تعتقد أنَّني كنت أحبُّها وتركتني؟! هو حرَّضها عليَّ لكي تشتمني في السوق…
-لماذا تعتقد أنَّه حرَّضها عليك؟!
-لينتقم منِّي بعدما تشاجرنا من أجل الوردة.
-عدنا إلى أسطوانة الوردة… هل ستخبرني الآن أنَّ وردتك كانت ترتدي تنُّورة قصيرة؟!
-وردتي فيها أسرار…
-يا أخي… هل أنت في وعيك الكامل؟!
-بالطبع. هل أمعنت النظر في وردة حمراء؟ هل شممت عطرها وتساءلت: من أين أتى؟ إنَّ الله وضع فيها رحيقاً من الجنَّة…
-وافقت معك…
-هل نظرت إلى طول الوردة؟
-نظرت…
-وإلى وداعتها؟
-نظرت أيضاً… أتحقِّق معي أم أحقِّق معك؟!
-وهل سألت نفسك: لماذا يضعون الورود الحمراء على أضرحة الشهداء؟! سأقول لك لماذا؟ لأنَّ في لونها قطرات من دمائهم. لقد نبتت الوردة الأولى في تراب خضَّبه شهيد… ووردتي أنا لم أزرعها بيدي. لقد طلعت من الأرض الممزوجة بدم والدي.
-والدك؟! ماذا حدث له؟!
-نزف حتَّى الموت. كانت في يده بندقيَّة فارغة من الرصاص، وتحت جسده راية ممزَّقة.
-تعني أنَّه قتل في الحرب؟
-نعم. كان يدافع عن البيت… كان الغزاة في وسط المدينة يقتلون الأبرياء، ويعتدون على النساء… طلبوا منه أن يستسلم، فرفض، وظلَّ يطلق النار عليهم حتَّى خلت جعبته من الرصاص… كان أبي يعرف أنَّ موته سيكون وردة.
-ومن أجلها أطلقت النار على عبُّود الصرُّوف؟!
-قلت له: إذا أردت واحداً من أولادي أعطيتك إيَّاه، أمَّا الوردة، فهي غالية عندي. إنَّها وردة الحرِّيَّة والأمل، ولن أتخلَّى عنها لأحد.
صمتَ سعيد فجأة، وبدا على محيَّاه حزن عميقً. كان المحقِّق ينظر إليه متاثِّراً. أخذ قلماً من جيب سترته، ودفعه إليه قائلاً: وقِّع هنا يا سعيد!
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع