انطلق مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.
في القسم الأول من المؤتمر تم نشر عشرين ورقة لأدباء ومفكرين من لبنان وأنحاء العالم.
القسم الثاني يضم 12 ورقة، في ما يلي الورقة 35 د. عماد يونس فغالي: الأدب المهجريّ، تأثيره في المهجر أو في الوطن؟ مقاربة سوسيو أدبيّة. “أفكار اغترابيّة” نموذجًا.
مقدّمة:
ما وعيتُ على نفسي يومًا إلاّ منجذبًا إلى العربيّةِ لغةً وأدبًا. صدّقوني إن قلتُ لا أزال حتى اليوم أجهلُ أسبابَ ميولي إليها منذ اليفاع. في كلّ الأحوال، تدرّجي فيها كان مدرسيًّا أوّلاً وأساسًا. أذكرُني منذ البدايات، أحبُّ اللغةَ العربيّة قواعديّتَها وفقهَها، ثمّ أدبَها.
كانتْ منظومة تعليم “العربي” تتضمّن نهجًا عُرف بمصطلَح “الاستظهار”. في ذهني لم يكن مهضومًا عند التلاميذ. لكنّي خلافًا أحببتُه. القائم على حفظ القصائد استظهارًا، وتسميعها للمعلّم شفهيًّا في الصفّ. وكان المعلّمون يهتمّون لمن يتبيّنون فيه موهبةَ الإلقاء. من هنا بدأتْ قصّتي مع الأدب المهجريّ.
كنتُ في الأوّل متوسّط، اليوم السادس أساسيّ. معلِّمُنا الأستاذ نزيه يزبك. وكانت قصيدة “يا ثلج” للشاعر المهجريّ رشيد أيّوب، عضو الرابطة القلميّة. حفظتُها استظهارًا، وبرغبةٍ لإيقاعيّتها اللافتة. لكنّي أذكرُ أنّي اهتممتُ لمناسبتها، وليدةَ شاعرٍ هاجرَ إلى الولايات المتّحدة الأميريكيّة، الثلجُ هناكَ أعاده إلى شتاء قريته في لبنان، وما يرافقه من منظومةٍ معيشيّة وسوسيو عائليّة.
اهتممتُ لِما رافق القصيدة من ظرفٍ ومشاعر. اهتممتُ لأنّ القصيدة ابنةُ قصّة. بيئتها لبنان، وطني، الأرض التي أعيش فيها، تعلّقتُ بها. وها هو الشاعرُ المهجريّ يحنّ إلى حيث أعيش أنا وأنمو.
من هنا قلت، بدأتْ قصّتي مع الأدب المهجريّ. هو ليس قطعةً من الأدب. هو رحلةٌ فيه شائقة. ساقتني عبر الزمن منذ عهد رشيد أيّوب، بدايات القرن العشرين، ورستْ بي يومًا ليس ببعيد، في ميناءٍ شططتُ منه على نهضةٍ اغترابيّة، لا ثانية، اسمحوا لي أن أقول، بل معاصرة وحاليّة اسمها “أفكار اغترابيّة للأدب الراقي”.
بين النهضتين، تفاعلٌ وتأسيس. تفاعلُ الأدب مع مهجريّته، وتفاعلُ الأدباء والمتلقّين مع مفاعيل
الأدب المهجريّ وتأثيراته. ومن جهةٍ أيضًا، تأسيسُ أدبٍ مهجريٍّ لعالم اليوم، أو في زمننا الحاضر. هذا التأسيس، له ظروفه ومعطياته، عساني أخوضها من خلال نموذج بحثي هذا: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي في سيدني أستراليا، لأطرحَ أشكاليّتي فيه: تأثير الأدب المهجريّ في المهجر أو في الوطن؟
الأدب المهجريّ، هويّةً واصطلاحًا:
الأدب المهجريّ هو كلّ نتاجٍ أدبيّ يكتبه أديبٌ لبنانيٌّ أو عربيّ عمومًا، ساكنٌ خارج وطنه الأمّ، يعيشُ في مهجر. الأدب المهجريّ مكتوبٌ بلغةِ الأديب الأمّ في الأساس، لكن ليس في الضرورة.
أدب المهجر، اصطلاحًا، هو نتاجُ أدباء وشعراء عرب ولبنانيّين هاجروا من أوطانهم إلى دول أميركا الشماليّة وأميركا الجنوبيّة في الفترة بين 1870 الى 1900، لأسبابٍ اقتصاديّة أو أمنيّة أو حتى سياسيّة.
كان معظم أدباء المهجر من سوريا وفلسطين ولبنان. وكان تواجدهم الأكبر في الولايات المتحدة والبرازيل وكندا.
“أدباء المهجر” حسب قاموس المعاني، “جماعات من العرب المسيحيّين، هاجرت من سوريا إلى كندا وأمريكا الجنوبية والولايات المتّحدة. فقد نقلوا اللُّغة العربيَّة وآدابها إلى تلك المهاجر البعيدة، فأنشأوا أدبًا يعبّرون به عن مشاعرهم وعواطفهم ويتحدَّثون عن غربتهم وحنينهم إلى أوطانهم، وأصبح أدبُهم مدرسة كبرى من مدارس الأدب الحديث”.
تقول الباحثة مريم عزيز خاني في مقدمة بحثٍ لها سنة 2014: “يُطلَق مصطلح المهجر على شعبة الأدب العربيّ الحديث الذي نشأ في البلدان الأوروبيّة والأميركيّة عند عدد من الأدباء العرب الذين هاجروا في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين إلى هذه البلاد”.
انطلاقًا ممّا تقدّم، يتكوّن الأدب المهجريّ، نشأةً واصطلاحًا، منذ بدايات القرن العشرين، في الأميركتين خصوصًا. الأدب المهجريّ اللبنانيّ بارزٌ لِما أعطى اللبنانيّون كمًّا من نتاجٍ أغنى المادّةَ نوعًا وعددًا.
هاجر اللبنانيّون إلى الأميركتين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، واستوطنوا البلاد التي أمّوها، لا ليتحوّلوا أبناءَها، بل لينقلوا إليها ما حملوه من إرثٍ شرقيٍّ ولبنانيّ نشأوا فيه وحافظوا عليه، ليتكوّنوا جماعاتٍ خاصّة، وإن أخذوا في النمط المحلّي سلوكًا معيشيًّا ومهنيًّا، بقوا في تقاليدهم أوفياء لتراثهم ومنظومتهم القيَميّة التي حملوها معهم.
على المستوى الأدبيّ والفكريّ عامّةً، تشكّل الطابعُ المهجريّ أيضًا على المستويَين الفرديّ والجماعيّ. فالأديب المهجريّ حمل يراعَه يخطّ بمدادٍ أحمرَ، يدبّجُ خوالجَ قلبه ومشاعره الدافقة. تراه لا يكتب إلاّ وطنه، ذكرياتٍ وحنينًا. منها يروح إلى النظُم المجتمعيّة في مرسلاتٍ إنسانيّة، حملَ نفسه لأجلها نبيًّا. والتقى بأترابه من أدباء وشعراء على المبادئ والتوجّهات نفسها، فشكّلوا جماعاتٍ أسّستْ لما يُسمّى اليوم النهضة الأدبيّة الإغترابيّة. شائعٌ التعريف بها منذ الرابطة القلميّة خصوصًا في الولايات المتّحدة الأميركيّة والعصبة الأندلسيّة في أميركا اللاتينيّة. لكنّ نتاجَ كليهما الأدبيّ، امتاز بنسبته إلى الأفراد فيهما. هاك “النبيّ” لجبران، و”مرداد” لنعيمة…
في شكلٍ عامّ، كما أوردتُ أعلاه، هذا الأدب خُطّ بالعربيّة، لكنّ مؤلّفاتٍ عدّة صدرت باللغات الأجنبيّة وتُرجمت لاحقًا.
يحضرني ههنا تساؤلٌ: هل الظروف التي أدّت إلى الهجرة، في طليعتها المناخات السياسيّة والتضييق العنصريّ وقد أقول المذهبيّ والانتمائيّ في شكلٍ عامّ، جعل أدباءَنا المهجريّين، يعبّرون في قولاتهم الأدبيّة، عن معاناتهم بلا مألوفٍ إبداعيّ؟
لماذا كانت نهضةٌ اغترابيّة؟
صحيحٌ كانت في المهاجر، الحركةُ الأدبيّة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. وكانت شبكةٌ علائقيّة بين روّاد الأدب هناك. تكوّنت حركةً فاعلة بخصائصها وتأثيراتها في المساحات الجغرافيّة التي نشأت على أرضها وعملت في مساحاتها، ولكنّ مفاعيلَها تخطّتْ كلّ حدودٍ مكانيّة، وعادتْ إلى أرضها الأمّ تُغْني عطاءاتِها. تلقّفها الوطنُ الأساس أدبًا قائمًا في ذاته ونهضةً وإن اغترابيّة، تؤسّسُ لحركةٍ فكريّة فوق الحدود المكانيّة والزمنيّة على السواء!
في هذه اليوم، يمكن القول إنّ هجرةَ الأدمغة تؤول إلى الخير وتعود بالفائدة. ولا ضيمَ إن كان امتدادُ الوطن في أقطار العالم.
امتدادُ النهضة وتأسيس!
إن كانت نهضةٌ اغترابيّة أولى في الثلث الأوّل من القرن العشرين، يحلو للباحثين تحديدُها بين السنتين 1916 و1931، أي سنوات قيام الرابطة القلميّة ونشاطها المهجريّ، أيُّ واقعٍ يعترف بانحلال النهضة، لأجل ارتحالِ روّادها من عالمنا وتوقّف إصداراتهم.
ما كتبوه وانتشر، لا يني يملأ مكتباتِنا، ويتصدّر مطالعاتنا ومنابع تفكيرنا، مصادرَ أبحاثنا ومراجعنا. كلّ ما بقي منهم، امتدادٌ لنهضتهم، ينهل منها الأديب والشاعر، ليبنيَ أدبه اليوم على ما أرسَوه في الأمس.
وإذا عدتُ إلى مقدّمتي أعلاه، بان لي وللقارئ، كم فعل الأدبُ المهجريّ في المجتمع التربويّ والأدبيّ على مستوى الوطن المقيم. إنّي درستُ نتاجَهم، هؤلاء المهجريّين، وتمرّستُ أديبًا على فكرهم، نهجًا ومضمونًا. وهذا حالُ أترابي. إنْ أقلْ أسّسوا، أقصدْ في ذات الفعل امتدّوا. بتعبيرٍ آخر، رسخ نتاجهم امتدادًا في المخزون الأدبيّ العامّ على المستويين الزمنيّ والتاريخيّ. الوطن الأمّ يفخر حتى اليوم بانتماء أدباء المهجر المصنّفين عالميّين إليه. ويتغنّى بما قدّموه للعالم من زخارف محليّة، مجتمعيّة وقيميّة ووطنيّة… كما أبناء الجاليات اللبنانيّة والعربيّة، تفاخر هي الأخرى بمحافظتها على التراث الوطنيّ الأمّ وعيشه في مغترباتها، انطلاقًا من تدوينه على يد أعلام القلم وأرباب الكلمة. يبقى أن أشير إلى زمنيّة النصّ المكتوب، التي لا حدود لها. النصّ المكتوب عابرٌ كلَّ زمان، باقٍ على الدوام، في قيمته ومفاعيله.
لا يمكنني الفصلُ في الواقع بين مفهمومين هنا تكلّمتُ عليهما: امتداد النهضة الاغترابيّة الأولى، وتأسيس نهضة جديدة. كأنّما القولُ إنّ الامتداد هو التواصل، فلا انقطاعَ إذًا في الأدب أو في النتاج الأدبيّ على الوجه الدقيق. لا تزالُ الهجرة من وطننا إلى المهاجر مستمرّة، وأصحاب القلم يستوطنون الغرب لأسبابٍ قد تتغيّر أو تبقى هي هي، لكنّ الثابت، أنّ المِدادَ يسيل مترَعًا، نازفًا كلّ حنينٍ على معيوشٍ يأبَون عنه انسلاخًا!
هم اليوم أدباؤنا الحاليّون في المهجر، امتدادٌ طبيعيّ لأسلافهم في بدايات القرن العشرين في ما يكتبونه، لغةً وخصائصَ ومضامين. لكنّ تأسيسًا لنهضةٍ جديدة لا بدّ قائمة ومستمرّة.
الأدب المهجريّ اليوم:
تقوم حركاتٌ أدبيّة في أيّامنا على امتداد المهاجر التي عرفناها في النهضة الاغترابيّة السابقة. حيث يقوم أحبّةٌ بنشاطٍ أدبيّ وفكريّ متنوّع في الولايات المتّحدة الأميركيّة، كمثل “غرفة 19” ورائدتها الأديبة اللبنانيّة إخلاص فرنسيس. وفي كندا مع الحركة الإبداعيّة كندا والعالم لرئيستها الأديبة رندة رفعت شرارة. وفي أستراليا، “مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابيّة للأدب الراقي” و”بستان الإبداع لسيّدة الحنين كلود ناصيف حرب.
يتميّز أدبُنا المهجريّ اليوم بتفاعله الفوريّ مع المتلقّي، في بلاد المهجر نفسها وعبر العالم قاطبةً. ولستُ في حاجةٍ لشرحٍ وافٍ. يكفي ذكرُ النشر على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ليهبّ المهتمّون إلى القراءة والتفاعل الأدبيّ والإنسانيّ والاجتماعيّ على السواء. أقول هذا وأنا أستحضر الدوافع الخاصّة بكلّ حالةٍ إلى ردّات فعلٍ عبر المواقع، من خلال التعليقات المُتاحة وتنوّعها، معبِّرةً عن المشاعر الخاصّة بكلّ متفاعل، وعلاقته بالناشر والمنشور. ولن أستفيض.
الأدب المهجريّ اليوم، كما في كلّ زمان، ينقل صورةَ الأديب الواقعيّة في معيوشه اليوميّ على الأرض التي استقبلته وحمتْه. وتنقل كذلك صورتَه المشاعريّة في انسلاخه عن أرض الوطن، حنينًا وحُلمًا، وألمًا في أحيان. لكنّ الصورةَ اليومَ تختلف. فالانسلاخ قائمٌ صحيح، لكنّ سهولةَ التواصل وتقنيّاته، تجعلُ الحضورَ الاغترابيّ المتبادل مع الوطن، أقوى وأفعل. ما يخفّف وطأةَ البُعاد قليلاً. ويبدّل في نوعيّة المضمون الأدبيّ الذي يرافق التطوّر في الواقع الحاليّ.
“أفكار اغترابيّة” نموذجًا:
في عَودٍ إلى عنوان مؤتمرنا هذا، أروح في مشروع “أفكار اغترابيّة للأدب الراقي” نموذجَ “النهضة الاغترابيّة الثانية لإبداعٍ من أجل الحضارة والإنسان”. هو المشروع أطلق المؤتمر من فيض دعوته ونشاطه الفاعل لبلوغ الهدف الذي يتلمّسه عبر فعاليّاته الفكريّة والخبراتيّة.
د. جميل الدويهي، أستاذٌ جامعيّ وباحث أكاديميّ، أديبٌ وشاعر. في شخصه ومن مكانته، يستطيع القيام بدور رجل النهضة حيث يعمل. لكنّه في قناعتي ومعرفتي به، فُطرَ على الإبداع في محبّته للإنسان ورقيّه. من هنا لم يتكلّفْ عناءً في توجيه مؤتمره نحو “الإبداع من أجل الحضارة والإنسان”. هذا هدف كلّ مشروعه ونشاطه، صرف العمرَ والقدرات، وتكبّد الألم والمعاناة راضيًا، لأجل ورود أرض الميعاد هذه.
غادر د. جميل أرض لبنانَ مكرَهًا، يحملُ قلمه “زادًا له في السفر”، كافيًا ومكتفيًا. راح من هنا أديبًا جميلاً، يرافقه الأديم اللبنانيّ مادّةً أدبيّة في كلّ نبضٍ يشعره فيؤتيه. هناكَ في القارّة البعيدة، تجلّى كما هو في نقائه الكلمة، لم يتغيّرْ ولم يتوقّف، داعيةَ حضارةٍ وإنسان في ملء.
لكنّه أبى أن يفعلَ وحيدًا. التقى الأتراب من المقرّبين أوًّلاً. أهل البيت أَوْلى بالمعروف. ثمّ اكتشف البراعمَ الواعدة وأطلقها. وراح يجمع الأحبّة من أهل القلم في محيطه المهجريّ. نشرَ النتاجَ الشخصيّ والآخريّ بالزخم نفسه. أقام الأمسيات الشعريّة والمهرجانات الأدبيّة، فتكوّنت فكرةٌ تأسيسيّة، تعمّدت مشروعًا باسم “أفكار اغترابيّة للأدب الراقي”. وانطلق كلُّ راقٍ منذ الأدب في الإنسان لأجل إنسانيّته، وبان المشروعُ رسولها على المدى. في سنواتٍ ستّ، ناهز عدد الإصدار الكتبيّ المئة، الغيريّةُ ميزتُه. أصدر لأدبائه دفقًا كأنّما يُصدِر لشخصه، بالفرح نفسه لدفعهم نحو قمّة عطائهم. أقامَ المشروع جائزةً معنويّة باسم “جائزة الأديب د. جميل الدويهي” السنويّة، تُمنح لمبدعين على امتداد العالم، في المجال الفكريّ والأدبيّ والإعلاميّ. هكذا راح المشروع في المنحى العالميّ للأدب الراقي.
صيف 2019، شدّ رائدُ “أفكار اغترابيّة” ومعاونوه الرحال، وانطلقوا في عَودٍ إلى بدء، نحو الوطن الأمّ، لبنان. كأنّما ليعيدوا الحنين إلى جذوره. عادوا في نشاطٍ ثقافيّ لم يهدأ. نعم، دلاليٌّ توجّههم إلى لبنان. بانَ المشهدُ فعلَ حجٍّ فكريٍّ بامتياز. كلّ ما نشأ في أستراليا، أحياه المشروع في لبنان. الجائزة مُنحتْ حضوريًّا لمبدعين على أرض الوطن، ووُقّعت الكتب الصادرة في المهجر في مسقط رأس مؤلّفيها وبين أهلهم.
والتقى الأدباء المهجريّون بزملائهم المقيمين الذين تبادلوا معهم الفكرَ عبر الأثير، فكان اللقاء حول الكلمة، لا أدبيًّا وحسب، لكن مجتمعيًّا وإنسانيًّا خصوصًا. صارت المعرفةُ بينهم واقعيّة، ما سمح لكلا الطرفين تصويب تخميناته تجاه الآخر. وتوضّحتْ صورة تلقّي أيّ نشاطٍ متبادل وحقيقة التفاعل معه وفق الأصول والنتائج.
توأمة وشراكة:
في “لقاء” عضوٌ إداريٌّ فاعل التقى د. جميل الدويهي قبل هجرته الأخيرة إلى أستراليا. تعرّف به في جامعة سيّدة اللويزة وكان الدويهيّ أستاذًا فيها، أثناء مؤتمرٍ كان الأخير يرأس إحدى جلساته. توطّدتْ العلاقة بين الأديب سليمان يوسف ابراهيم والدكتور الدويهيّ، وتعاونا أدبيًّا على مدى سنوات، ما أسفر عن حصول الأديب ابراهيم على جائزة الدويهي العام 2017، ليكون أوّلَ لبنانيٍّ مقيم يُمنحُها.
من يعرف سليمان يوسف ابراهيم، يصدّقْ كم يحبّ، بل كم يسعى لينالَ من يستحقّ في نظره، ما يتمتّع به هو. هكذا رشّح ابراهيم رئيس “لقاء” للجائزة فنالها العام 2018، وبدأ التعارف الفعليّ عبر التواصل الإلكترونيّ بين رئيسي “أفكار اغترابيّة” و”لقاء” أثمرَ مباشرةً تعاونًا فكريًّا وثقافيًّا من خلال أنشطةٍ متبادَلة، جعلتْ “لقاء” يقيمُ احتفالاً بقدوم الوفد الاغترابيّ إلى لبنان، تكريميًا لمؤسّس المشروع وصحبه، على مسرح المكتبة الوطنيّة في بيروت، وفي حضور مديرها العام الدكتور حسّان العكره.
هذا التبادلُ الفكريّ الذي صدر عنه خمسة كتب حتى الآن، ويهيّئ الدكتور الدويهي لكتابين إضافيّين، وَلدَ شراكةً عالية، عمل الطرفان على توثيق عُراها وتثبيتها بتوأمة خاصّة التقيا على مبادئها وأسسها كافّةً. بحيث يشاركُ كلّ فريقٍ بأيّ نشاطٍ يقيمه الفريق الآخر دعوةً وتنظيمًا وحضورًا… هكذا صارا جناحين لطائرٍ واحد يحلّق في سماء الفكر ويسبح في فضاء الثقافة، يقدّم لعالم اليومِ مساحةً من علو، تمكّن لكلّ باحثٍ في المجال أن يسمو ويغتني!
هذه التوأمة المتجسّدة شراكةً في “لقاء أفكار” الطرفَين، هي في رأيي وتوجّهي على السواء، علامةٌ فارقة في الأدب المهجريّ اليوم، وتأثيراته المباشرة في المهجر والوطن، على الصعيدين الأدبيّ والاجتماعيّ. فالتبادلُ الفكريّ بين المهاجر والمقيم، إذا توافر له التناغمُ الإنسانيّ بين روّاده والفاعلين فيه، لا بدّ يؤتي نتائجَ باهرةَ الثمار. مؤتمرُنا هذا دليلٌ حسّيّ على التعاون والتبادل القائمَين، يسهّلُ عمليّة الإفادة المستدامة وإيصال المرسلة والأهداف. وإذا نسيتُ، لا أنسى تحريرَ المجلّة الإلكترونيّة “أفكار اغترابيّة، أدب وثقافة”، التي يشاركُ في أسرة تحريرها عددٌ كبير من أعضاء “لقاء”، ولبعضهم زاوية ثابتة يكتبونها في كلّ عدد.
نهضة اغترابيّة ثانية:
تكلّمتُ أعلاه على عدم انقطاعٍ للنهضة الاغترابيّة التي قامت بدايةَ القرن العشرين. قلتُ الحالةُ استمرارٌ وتأسيس. ما ربّما لم يكنْ بين النهضةِ هذه وما نتلمّسُه اليوم من نهضةٍ ثانية، هو فعلاً ما يمكن تحديده بالحركات الأدبيّة، أقصد الجماعيّة. في الوقت، كانت الرابطة القلميّة، وكانت العصبة الأندلسيّة. جماعتان أدبيّتان، تفاعلتْ كلّ واحدةٍ في أعضائها بنشاطٍ أدبيٍّ شعريّ، ولكن بتبادلٍ فكريّ عالي الصوت والمفاعيل. هذه الحركة الفكريّة في الاغتراب خلقت يومها نهضةً فكريّة طالت المهاجرَ التي تواجد فيها روّادُها، وارتدّتْ بإيجابيّتها على الوطن الأمّ. هذا جغرافيًّا، أمّا في الزمن، فلا نزال بعد قرنٍ خلا، ننعم بما أرسوه من قواعدَ فكريّة وأسسٍ أدبيّة لم يخْبُ وهجها.
بعد تلك المرحلة، لم تتكوّن في المغتربات حركةٌ أدبيّة جماعيّة. والنهضةُ تحتاج منذ ماهيتها إلى أرضٍ جماعةٍ تمتدّ فيها وتنسحبُ على الملأ. لكنّ أدباءَ وشعراءَ ومفكّرين من لبنان والعالم العربيّ، غمروا العالم بعطاءاتهم في المجالات كلّها. من هنا، كانت خبراتُهم منصّاتٍ تأسيسيّة لِما يمكن أن يكوّنَ نهضةً جديدة.
وكما ذكرتُ أيضًا، قامت في بداية القرن الحاليّ جماعاتٌ أدبيّة في أميركا الشماليّة، تعمل اليوم بنشاطٍ أدبيّ يجمع المغترب بالمقيم، عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، فيُرسي مخزونًا أدبيًّا متنوِّعًا، ويجمع الكلمة بالفنّ، خصوصًا الرسم. وتصدر الحركةُ الإبدعيّة كندا والعالم نتاجَها السنويّ في عملٍ توثيقيٍّ تكنولوجيٍّ فنيّ عقب نشره الدوريّ المشكور. أمّا “غرفة 19” فإلى الأمسيات والندوات الفكريّة، تصدر مجلّتَها الإلكترونيّة الجامعة. كم جميل!
وأعود إلى نموذج ورقتي “مشروع أفكار اغترابيّة”، لا لأعدّد تكرارًا ما أنجز ولا يزال. أعود لأميّز في تعدّديّة نتاجه، بابًا واسعًا لنهضةٍ اغترابيّة جديدة. لا أقولُ بحصريّة “أفكار اغترابيّة” في تكوّن النهضة، بل فقط بتنوّعِ الأسس التي يقدّمها. وفضلُ المشروع وصاحبه يعود أيضًا لطرحه فكرة التأسيس لهذه النهضة الجديدة، من خلال طرح أهدافٍ يسعى مؤتمرُنا إلى بلوغها. من استطلاع رأي المعنيّين من أصحاب القلم والاختصاص حول إمكانيّة تأسيس للنهضة الجديدة، و”الوصول إلى ورقة حواريّة مشتركة… تقوم على الفرادة والتنوّع والخروج من نمطية النوع”، ولا يكتفي. هو يتطلّع إلى “إبداعٍ لأجل الحضارة والإنسان”.
هذا تطلّعٌ شامل، يسعى إليه مشروع “أفكار اغترابيّة” في أستراليا مع الدكتور جميل الدويهي. لكنّه لا يتمّ إلاّ بالشراكة مع الحركة الأدبيّة عبر العالم. في شراكةٍ عن قناعة مع جميع الأطراف التي سمّيتُها في أميركا، مع بستان الإبداع في سيدني و”لقاء” في لبنان. ولكن مع كلّ حركةٍ أدبيّة ناشطة في أيّ مكانٍ في العالم، رابطةً أدبَ المهجر بالأدب المقيم، فتستقيم النهضةُ وتكون القيمةُ للكلمة تفتحُ للفكرِ مساحاتِ الإبداع.
خاتمة:
“لإبداعٍ من أجل الحضارة والإنسان”. وتبقى النهضة الاغترابيّة تنظر الإبداعَ غايةً، في كلّ مضمارٍ تخوضه. الإبداعُ قمّةٌ في الجمال والدهشة، هنا أدبًا وفنًّا، وهناك علمًا واختراعات. في هذه كلّها، الإبداع فكر لأجل حضارةٍ وإنسان، لأجل حضارة الإنسان، يصلُ قمّتَها فيبلغَ ملأه.
الأدبُ المهجريّ كيانٌ أدبيّ نشأ يومًا هويّةً واصطلاحًا، تشكّلَ نهضةً إبداعيّةً، قالت في تشعّباتها كلّ مألوفٍ من عاديّات المجتمع الاغترابيّ، ومشاعر أبنائه حنينًا وذكريات، ونشدتْ تطلّعاتهم الحياتيّة روَوا مدادَهم رؤىً وأحلامًا بطرائقَ غير مألوفة.
نهضةٌ اغترابيّة تأسّستْ عرفًا في الربع الأوّل من القرن العشرين، امتدّتْ في تأثيراتها على الزمن لتبنيَ صروحًا لروّادٍ حاليّين، يُعلونَ لواءَها اليوم من جديد، على أعمدةٍ من أسسٍ معاصرة، تحاكي مجتمعَ اليوم في أهله ومنظومة معيوشهم، لتمتدّ على نتاجهم الأدبيّ الذي يُنشدُ إنسانيّتَهم في أحوالها تميّزاتٍ ومحرّمات.
النهضةُ الاغترابيّة، وليدةُ أدب المغتربين، ابنةٌ دائمة لوطنٍ أمّ يفخر بأبوّتها، يتفاعلُ في جمالات نتاجها الفكريّ الأصيل، ينتقلُ بها إلى أقاصي المعمورة، تبني له حيثُ تكون بيتًا، يرثه المقيم وينشأ عليه.
هذا في اختصار، ما حاولتُ عبر ورقتي هذه الإضاءة عليه. مقاربةٌ سوسيو أدبيّة لأقول إنّ الأدبَ مرآة المجتمع، كلّ نهضةٍ تنقل في أدبها، المجتمعَ إلى إبداعٍ يطالُ حضارةَ الإنسان الراقية حياةً وقيمًا تنظر إلى فوق وتجذب متى ارتفعت كلّ أحد!
في 1 شباط 2022