“رجال في الصحراء ” لجميل الدويهي

 

كان رجل يسير تحت الشمس الحارقة، فالتقى بتاجر من مدينة بعيدة.

قال التاجر: الحمد لله… إنّني وجدتك، فقد تشرّدت في البراري والقفار، بينما كنت في طريق عودتي إلى قريش، ولم يكن في زادي إلاّ حبّة واحدة من التمر، أكلتها يوم أمس.

قال الرجل: سامحني يا أخي. إنّ حالي مثل حالك. فلم يبق معي غير كسرة خبز أتيت بها من العلّيّة، عندما كان المعلم الأكبر مع تلاميذه، وقد جعت هذا الصباح، فأكلتها.

فجأة، ظهر من بعيد رجل ثالث، فخفّ اليهما: وقال بصوت يابس متعب: كم إنّ الله كريم! فقد طالت رحلتي، وليس في زادي إلاّ حبّتان من الزيتون، تكرّم بهما عليّ نفر من الناس كانوا في صحراء التيه. وبينما كنت أغطّ في نومي، سرق اللصوص متاعي، فلم يعد لديّ شيء لأقتات به.

سار الرجال الثلاثة معاً لمسافة قصيرة، فصادفوا شابّاً من الهند، أسمر البشرة، حادّ النظرات، وفد بدا عليه الإرهاق. كان يمتطي دابّة هزيلة، وما إن رآهم الشابّ حتّى افتر ّثغره عن ابتسامة، وهتف: يا له من حظّ جميل! فقد تقطّعت بي السبل، وأكاد أموت جوعاً… كان معي قليل من الأرزّ لا يشبعني، فوقع من يدي في الرمال. وليت أحدكم يعطيني ما أسدّ به رمقي!

نظر الرجال أحدهم إلى الآخر بحسرة، ولم يجيبوا. وبينما هم حائرون ومرهقون من الجوع، مرّ بهم فتى أسود البشرة، يحمل كيساً كبيراً على ظهره، فصاحوا به: إنّ الله أرسلك إلينا، فلا بدّ أنّ في هذا الكيس طعاماً لنا، فقد طال بنا الحرمان، وأخذ منّا كلّ مأخذ.

فال الفتى: لا أعرف مَن هو الله الذي تقولون إنّه أرسلني إليكم، فلم يطلب منّي أحد أن أكون هنا، أو أن ألتقي بكم…  ولكن لا بأس… إنّ معي في هذا الكيس كثيراً من الطعام الذي اشتريته للتوّ من سوق قريبة، وكنت أحمله إلى إخوتي.

أنزل الفتى الكيس عن ظهره، وأخذ يعطي منه للآخرين بفرح.

جلسوا جميعاً تحت شجرة عجوز، وتناولوا الطعام، وهم يشكرون، ويقولون: حمداً لك يا ربّ، فإنّك تحبّنا كثيراً، وأغدقت علينا من فضل إنسان لم يعرفك يوماً، ولا اهتدى إليك، أو صلّى في معابدك.


مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي، النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد