مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية للأدب الراقي/ الورقة 30: الدكتور روني خليل* – لبنان الهجرة المارونية أواسط القرن التاسع عشر من الناحية الروحية

 

 

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في القسم الأول من المؤتمر تم نشر عشرين ورقة لأدباء ومفكرين من لبنان وأنحاء العالم.

 القسم الثاني يضم 12 ورقة، في ما يلي الورقة 30 : الدكتور روني خليل* – لبنان الهجرة المارونية أواسط القرن التاسع عشر من الناحية الروحية.

 

 

 (نموذج؛ قبرس- السلطنة العثمانية – مصر – إيطاليا)

 إستناداً الى أرشيف المكتبة البطريركية المارونية – بكركي (1823- 1845)

الهجرة اللبنانية قديمة العهد تعود الى قرون خلت، وهنا في مقالي هذا سأتوقف عند نماذج منها آخذا بعين الاعتبار هجرة اللبنانيين والموارنة خصوصا في القرن التاسع عشر، والى مناطق محددة من العالم، لان هذا الموضوع مهما تحدثنا عنه، يبقى قليلا مقارنة مع الموضوع من كل جوانبه، ان من حيث العوامل التي ساعدت على هذه الظاهرة او من خلال أصقاع الارض التي استقبلت اللبنانيين، او من خلال نتائج الهجرة المتشعبة منها الايجابية ومنها السلبية… فتناولت هجرة الموارنة خلال القرن التاسع عشر استنادا الى ارشيف المكتبة البطريركية المارونية _ بكركي الى جهات؛ قبرس، مصر، ايطاليا وتركيا، متوقفاً وبشكل اساسي على الناحية الاجتماعية والروحية لهؤلاء المهاجرين.

خلال هذا القرن شهد جبل لبنان سلسلة احداثاً داخلية ساهمت في انطلاق وتزايد وتيرة الهجرة، فالاحداث الامنية الداخلية من حروب وفتن اهلية، والتدخلات الخارجية الى ضيق مساحة الجبل ابان المتصرفية (1861- 1918) الى عوامل الجذب الخارجية التي اطلقها قناصل الدول الغربية وارسالياتها بغية حث اللبنانيين على المغادرة، تحت ذرائع عدة منها بهدف تغيير نمط عيشهم واكتشاف الحضارة الغربية والوصول الى مناطق اكثر اماناً وسواها من المغريات، كما وعمدت الارساليات الى تقديم منح لطلاب محليين لمتابعة تخصصهم في الخارج، ناهيك عن وصول اخبار عن المهاجرين الاوائل تفيد بتحقيق قسم منهم تقدما ملموسا ان على الصعيد الاقتصادي او الاجتماعي، هذه العوامل  وسواها شجعت عشرات لا بل مئات اللبنانيين على الهجرة، التي تفرعت الى نوعين، هجرة منظمة وشرعية عبر المرافئ المحلية بواسطة تذكرة حكومية من السلطات الادارية، وهجرة غير شرعية وغير منظمة اي غير محددة المعالم بوضوح؛ اذ حاولت السلطات العثمانية العمل على التخفيف من الهجرة لئلا تتوسع في ارجاء السلطنة بين رعاياها، لذا ساد هذا النوع من الهجرة، والتي غالباً ما كانت مدروسة، فانتشرت هنا اعمال السمسرة بين بعض الموظفين بغية تأمين حماية لبعض المهاجرين (تهريب المهاجرين) الذين دفعوا بعض الاموال بشكل رشاوى… وكان غالبية المهاجرين الاوائل يصعدون المراكب غير مدركين جهة الوصول ولا حتى لغة البلد المهاجر اليه او وضعه الاقتصادي والامني، آخذين معهم بعض الحاجيات الاساسية، وعليه وصل لبنانيون الى اصقاع مختلفة من العالم.

وكم من المصاعب التي واجهتهم، من مصاعب مناخية وثقافية واجتماعية واقتصادية ونفسية وعرقية اوصلت البعض منهم الى الموت بعيد رحيلهم من موطنهم الام. هذا وقد أطلق الغرب عبارة على المهاجرين خلال القرن ١٩ “توركو” Turcos نسبة الى مجيئهم من اراض خاضعة للسيطرة العثمانية، ما شكّل حالة نفسية محبطة عند غالبية المهاجرين، ناهيك عن اوصاف أخرى اطلقها عليهم بعض البحاثة الغربيين او بعض الصحافيين، فأطلقوا عليهم على سبيل المثال تهما منها “اكلي لحوم البشر”، “وسخون يرتدون ثياباً رثة…”، او “أوسخ من كلاب القسطنطينية” وسواها من العبارات المهينة بحقهم آنذاك. عمل المهاجرون الاوائل بشتى انواع المهن المتواضعة حتى استطاعوا العيش والاستمرار، وعانوا الأمرين… هذا ولا يخفى عن تقبّل بعض المجتمعات الغربية لهم فيما بعد، خصوصا وان معظم المهاجرين اظهروا حسن النوايا والعمل المستقيم ناقلين معهم مبادئ اخلاقية وعادات اجتماعية مشرّفة.

وفي ما يلي عرض لابرز أوضاع المهاجرين أواسط القرن 19  استنادا الى الارشيف.

1_ موارنة قبرس

يرجع تواجد الموارنة في جزيرة قبرس إلى عهود سبقت فترة الحملات الصليبيّة. وتضاءل عددهم مع الوقت، بسبب المضايقات المادّية والسياسيّة التي تعرّضوا لها أحياناً كثيرة من قبل السلطات العثمانيّة، فتشتّت قسم منهم، واستقر القسم الآخر بالجزيرة مكابداً خسائر مادية، وروحيّة أيضاً، تمثّلت بهدم كنائس لهم وطرد بعض كهنتهم. فسمح إذّاك المجمع المقدّس في 18 أيلول 1827، للموارنة الموجودين في لارنكا ونيقوسيا بقبرس بدفن موتاهم في مقابر اللاتين، في حين استمرت المضايقات بحقهم على الرغم من المساعي المبذولة من قبل قنصل فرنسا في الجزيرة لحمايتهم والدفاع عنهم. وللغاية ذاتها أوفد البطريرك يوسف حبيش الخوري نقولا مراد الى تلك الجهات للاطلاع على أحوال أبناء الطائفة، فرفع مراد في نهاية زيارته تقريراً أشار فيه إلى تراجع حالتهم الروحية لحاجتهم إلى كهنة يخدمونهم، إذ عندهم كاهنان فقط يقومان بخدمة ست قرى. أما القرى الباقية فتفتقر كلياً إلى الكهنة، حتى أن بعض أبناء الموارنة لم يمارسوا الأسرار منذ أكثر من سنتين، مع ما رافق ذلك من خطر تحوّل بعضهم إلى الطقس اللاتيني وخصوصاً أن الكهنة اللاتين يعملون جاهدين لتحقيق هذا المأرب. وخلال تلك الفترة، التقى الخوري مراد وكلاء الطائفة في الجزيرة من آل دياب، الذين أبدوا عزمهم على تقديم دعمهم المالي لمصلحة الطائفة في قبرس، ورغبتهم في إرسال كاهن من جبل لبنان، متكفلين بمصاريفه. ودرءاً لهذا الأمر، وجّه البطريرك حبيش في ربيع العام 1835 كاهنين لخدمة موارنة الجزيرة، ثم جدّد بتاريخ 26 آب 1836، للكاهن أنطون الزمّار خادم الموارنة في بلدة كورماجيت القبرسية، الإذن بحلّ الخطايا المحفوظة لشخص البطريرك، والذي كان قد ناله من أيام البطريرك يوحنا الحلو، وسمح له وللكهنة الموارنة في قبرس بتقدمة القدّاس الإلهي من دون مساعدة شماس، لافتقارهم إلى الإكليروس.

وتلبيةً لنداءات الموارنة في قبرس، أمر البطريرك حبيش الخوري مخايل بالتوجّه لخدمتهم، في 20 أيلول 1836، فلبّى الأمر وفي 23 نيسان 1839، بعث المجمع المقدس إلى البطريرك حبيش بكتاب أفاده فيه بأنّ كهنة قبرس الموارنة يتأخرون عن تأدية واجباتهم الروحيّة، ولا سيما كاهن رعية كورماجيت، الكاهن أنطون الزمار، الذي يقضي معظم أوقات السنة بعيداً عن رعيّته. وطلب إلى غبطته حثّ خدام الموارنة في قبرس على الاهتمام أكثر بواجباتهم. فردّ غبطته موضحاً أن مراسيمه لا تنقطع عن كهنة الجزيرة، والمتضمّنة حثّهم على خدمة رعاياهم. وبشأن عدم إقامة الوكيل الخوري أنطون الزمار برعيّته، فهذا بسبب مرضه ولعدم وجود طبيب في البلدة المذكورة. وقد استأذنه السماح للإقامة ببلدة فيها طبيب ليُعالَج وبعدها يمكنه العودة إلى رعيّته لخدمة أبنائها. وقد أمره حبيش بتعيين كاهن ماروني مكانه ريثما يتماثل للشفاء. وبعدما تعافى الخوري الزمار، عاد إلى كورماجيت، وأشاد غبطته بكفايته وبتقواه، وطلب إلى المجمع المقدّس مساعدة الموارنة في قبرس مادياً وروحياً لما يصيبهم من مظالم ومضايقات من قبل الآخرين.

 مارس موارنة قبرس طقوسهم في أحد بيوتهم بعد حصولهم على إذنٍ من المرجعيات الروحية هناك. وبعد تهدّم البيت، أقاموا قداديسهم في دير الفرنج للرهبان (هكذا ورد اسمه) إلى أن استحصل أحد وجهائهم في قبرس الخواجا دياب على فرمان من الدولة العلية لبناء كنيسة لهم على اسم القدّيسة مارينا، فأرسل الراهب اللبناني البلدي أرسانيوس النيحاوي يطلب إذن البطريرك بمباشرة البناء، وكذلك إذن رئيسه العام الأب مبارك حليحل بسكنتاوي. فحصلوا على الإذن. وطلب البطريرك حبيش إلى أبناء الطائفة أجمعين تقديم الإحسان لإخوانهم الموارنة في قبرس بغية إتمام مشروعهم الرعوي. باشر الموارنة بعد ذلك تقديم دعمهم، وبلغ الإحسان المقدّم لهذا المشروع حتى 8 آب 1836، 1988 قرشاً كان قد جمعها الخوري حنّا القبرسي. أضيف لاحقاً مبلغ 2800 قرش جُمعت حتى نهاية العام 1836.

 2- الموارنة في مصر

يعود وجود الموارنة في مصر إلى أواخر القرن الخامس عشر. وازداد عددهم فيها في أثناء عهد محمّد علي باشا الذي استقدم من لبنان مزارعين ليهتمّوا بنوع خاص بتربية دود الحرير. وقد رافق هذه الهجرة هجرة بعض المفكّرين والكتّاب الموارنة، فتبوّأ بعضهم مراكز اجتماعية وحكوميّة مهمّة. فقد شكّلت مصر عنصراً جاذباً للهجرة إليها نظراً إلى موقع بعض مدنها الساحلية المميز المطل على البحر المتوسط، بالإضافة الى تحسّن النشاط الاقتصادي فيها وتنامي حركة الرساميل الأوروبية.

انتشر الموارنة في مصر في المناطق التالية: القاهرة، دمياط، وادي الشرقيّة، شوبرا، الإسكندريّة، الرشيد، مصر القديمة (الفسطاط)… ونظراً إلى عدم وجود دراسات إحصائية دقيقة لم يتمكن الباحثون من إيراد أعداد المهاجرين الموارنة الى مصر في خلال الحقب الأولى لوجودهم هناك. وقد بدأت الدراسات الديمغرافية عنهم تظهر شيئاً فشيئاً مع بداية القرن التاسع عشر، ففي العام 1811 أوردت دراسة سكانية أنّ عدد المهاجرين الشوام عموماً بلغ نحو 5 آلاف شخص، توزعوا على مدن مصر كالآتي: 3 آلاف مسيحي في القاهرة، ما بين 500 و600 في دمياط، وما بين 200 و300 في الإسكندرية وغيرها.

وأدرج إحصاء آخر أُجري العام 1824، عدد الموارنة في القاهرة فبلغ حينها 184شخصاً، وارتفع العدد في المدينة المذكورة الى 226 العام 1843. إلاّ أن أول إحصاء شامل لهم كان العام 1927، أجراه المطران عبدالله الخوري مطران عرقا شرفاً، فبلغ عددهم حينها 8403 نسمة، منهم 3657 في القاهرة.

أ-حالتهم الروحية: تسلّم الوكالة البطريركيّة في مصر القس أنطون مارون في آذار 1823، واستمرّ فيها طيلة فترة بطريركيّة حبيش إلى حين وفاته العام 1846. وقد ساعده عدد من الكهنة. وكثرت المراسلات المتبادلة بينه وبين البطريرك حبيش، تضمّنت موضوعات متعددة . نَعِم الموارنة في مصر بأمان وحرية منحتهما لهم السلطة الحاكمة، لكنّهم تحمّلوا معاناة روحيّة ومضايقات من قبل بعض رؤساء الطوائف المسيحيّة الأخرى. فلم يُسمَح لهم باقتبال سرّ التثبيت المقدّس إلا من يد رئيس عام القدس المعطى له هذا الإنعام من الكرسي الرسولي، أو من يد أحد كهنته في مصر، بحجة عدم وجود أسقف لهم. إلى أن قام الأب فرنسيس دولوسّي Francis DOLOSSY اللاتيني رئيس أنطش مصر القديمة اي الفسطاط الذي كان يُعرف باسم الدير الكبير، بمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية في الدير المذكور ودفن موتاهم فيه، متذرّعاً عدم دفعهم إيجاراً سنوياً كان قد طلبه منهم. هذا علماً أن وجود الموارنة في هذا الدير يرجع إلى أواسط القرن الثامن عشر، ففي العام 1781، أذِن لهم البابا بيوس السادس PIE  6 بدفن موتاهم في مقابر الدير، وقد خدمهم فيه عدّة قساوسة حينها، نذكر منهم: يوسف حجّار الوكيل البطريركي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ومساعده القسّ ساروفيم عيواط، والقسّ أنطون مارون الذي وصل إلى مصر العام 1801 وخدم في الدير ثمانية أعوام قبل توجّهه إلى دمياط. وفعل الأب دولوسّي الأمر عينه مع أبناء طائفة الأرمن الكاثوليك، لكنّهم استطاعوا دفع مبلغ سنوي قيمته 400 قرش، فعاد وسمح لهم بالصلاة في الدير.

إنّ تحليلي الشخصي لموقف الاب اللاتيني تجاه الموارنة في مصر، جاء انطلاقاً من المساعي الحثيثة التي سعى اليها الآباء اللاتين خلال تلك الفترة لتحويل الموارنة وخاصة في بلدان الإغتراب من طقسهم الماروني الى الطقس اللاتيني. وهذا ما دفع البطريرك حبيش في مواقف عديدة للدفاع عن خصوصيات طائفته والتمسّك بتقاليدها وطقوسها الشرقية.

ب- بناء الدير الماروني: وجّه الأب أنطون مارون اهتمامه بإنشاء دير يقيم فيه مع معاونيه، ومدافن خصوصية للمتوفين من أبناء الطائفة، وخصوصاً بعد تلك المعاملة القاسية التي تعرّض لها الموارنة من قبل كهنة اللاتين. فوُفّق بشراء مكان في ظاهر مصر القديمة يُدعى معمل البارود، بمبلغ قدره 5489 قرشاً. ثم اشترى بيتاً حقيراً بجانبه من ابراهيم التباني سكنه مع الأبوين أرسانيوس القرداحي وروفائيل الخرّاط. وفي أواخر العام 1833، احترق البيت بما فيه من أثاث وطلب الأب مارون في صيف 1834، إلى الإدارة الرسميّة إعطاءه الإذن بإنشاء الدير وضمنه كنيسة ومدافن، فحصل على الموافقة. كذلك طلب الإذن من البطريرك حبيش الذي وافق بسرور. فباشر الأب أنطون مارون البناء، وشيّد كنيسة على هندسة عربيّة وكرّسها على اسم مار الياس. وقد كلّفه البناء 59600 قرش، كان قد جمعها من المساعدات التي قدّمها له أبناء الطائفة في مصر، ومن الرهبنة الحلبيّة اللبنانيّة التي ينتمي إليها. وسجّل البناء تسجيلاً شرعياً بتاريخ 15 رمضان 1251هـ/1836م، ووَقَفه للرهبان الموارنة الحلبيّين اللبنانيّين القاطنين في دير سيّدة اللويزة بكسروان، شرط أن يُصرف من ريع هذا الوقف نفقة دفنه، وأن تكون الولاية على الدير المرقوم لمن يخلفه في وظيفته بأمر رئيس عام الرهبانيّة الحلبيّة. وقبل الإنتهاء من بناء الدير، كان الأب أنطون قد بنى في الجانب الشرقي من الكنيسة مقبرة مؤلّفة من 12 حجرة لدفن موتى الطائفة، وخصّص له حجرة.

ج – أماكن عبادة الموارنة في مناطق أخرى في مصرمارس الموارنة شعائرهم الدينيّة في الإسكندريّة، في بيت استأجروه في الناحية المعروفة بالمسلّة الجديدة. وقام بخدمتهم الخوري حنّا الناصري والخوري رشيد المخلّصي.

وفي المنصورة أقام الموارنة صلواتهم في كنيسة الآباء الفرنسيسكان.  فالكنيسة الوحيدة التي امتلكتها الطائفة المارونية، قبل بناء الدير في مصر القديمة، كانت في منطقة وادي الشرقية، وهي كنيسة صغيرة، أمّنت مصاريفها من محاصيل الأرزاق التابعة لها. وقد خدم الموارنة فيها الخوري يواكيم الجميّل والخوري فيليبوس الجميّل. اما حسنة القداس في مصر خلال تلك الفترة (1823-1845)، فكانت عشرين فضة، وارتفعت إلى أربعين، ضعف ما كانت عليه في لبنان. وبلغت قيمة العشور وحسنات القداسات والنذورات المرسلة من موارنة مصر إلى البطريرك حبيش 14038 قرشاً من العام 1823 حتى 1845.

د – الحماية الفرنسيّة للموارنة في مصر: مع بداية العام 1832، وجّه القس أنطون مارون رسالة إلى قنصل فرنسا في مصر ذكّره فيها ببراءات الحماية الفرنسيّة المعطاة للموارنة في البلد المذكور، وكانت أوّلاها براءة الملك لويس الرابع عشر بتاريخ 26 نيسان 1649، ثم من الملك لويس الخامس عشر في 12 نيسان 1737. وطلب القس مارون إلى القنصل براءة مماثلة، فأنعم الأخير ببراءة حماية لجميع أبناء الطائفة المارونيّة في مصر، وأمر موظفيه الفرنسيّين في 15 كانون الثاني 1832 بمنح الموارنة كل الحقوق والإنعامات المختصة بالحماية.

وكما أولى البطريرك حبيش الموارنة في مصر اهتماماً، كذلك أبدى اهتماماً بالوجود الماروني في إيطاليا.

الحالة الروحية للمهاجرين الموارنة في إيطاليا

لم تُشر الوثائق إلى تاريخ الموارنة هناك ولا حتى إلى أعدادهم، لكن ما علمته هو أن الخوري نقولا مراد (المطران لاحقاً) ثُبّت كاهناً على جماعة الشرقيين في ليكورنا بمن فيهم الموارنة، بموافقة حاكم توسكانة، بعد وفاة القس أنطون يونان. فعمّم الحاكم في نيسان 1829 هذا الأمر على الدوائر الرسمية وقاضي البلاد وأسقفها، وتحمّل دفع مبلغ 40 ريالاً شهرياً لتأمين معيشة الخوري مراد، بالإضافة إلى حصول الأخير على حسنة 13 قداساً في كل شهر، قيمة كل قداس نحو الريال، فيصبح مجموع الحسنة 52 ريالاً، تكفيه لتأمين مصاريفه.

تميّز الخوري مراد بالسيرة الجيدة وبحسن معاملة الآخرين، فرضي عليه موارنة ليكورنا وسكّانها وفعالياتها وبقي في مهمته حتى ربيع 1835. وتلقّى في تلك الأثناء أمراً من البطريرك حبيش يفيده بترك خدمته في ليكورنا والتوجّه إلى روما لاستلام وكالة الطائفة فيها مكان الخوري إسطفان حبيش. وفي الوقت عينه أصدر البطريرك حبيش أمره بتعيين الخوري يوسف حبيش خادماً لأبناء الطائفة في ليكورنا في 18 آذار 1835، وهو تلميذ مدرسة عين ورقة والمشهود له بإتقانه اللغتين اللاتينية والإيطالية لكن استلامهما المهام فعلياً تأخر بسبب إنتشار وباء الطاعون. وبعد مكافحته بأشهر، تسلم كلّ من مراد وحبيش مهامهما . برز من موارنة ليكورنا أبناء عائلة ناصيف مطر الذين جمعتهم والبطريرك حبيش صداقة قوية، وكثرت المراسلات بين الطرفين تناولت موضوعات متنوعة  وبرز ايضا أبناء عائلة كوبا وهم في الأصل من عائلة كبّة من شمال لبنان، أدّوا دوراً مهمّاً في سبيل مساعدة مشاريع الطائفة بمساهماتهم المادية والمعنوية. وبرز منهم الأب روفايل غنطوس كوبا الحلبي الماروني الذي رقّاه الكرسي الرسولي على أسقفية ليكورنا في أواخر العام 1833، بعد مشورة حاكمها وموافقته. وبعد إعلانه مطراناً، تهافت موارنة ليكورنا لتهنئته، وتوسموا في شخصه آمالاً  كباراً، طالبين إليه التوسط لدى حاكم البلاد للإستحصال على رخصة بناء لكنيسة بغية ممارسة شعائرهم الدينية. تميّز المطران كوبا بعلاقته الوديّة مع البطريرك حبيش، فكان يراسله باستمرار مطمئناً إلى صحته ومهنئاً إياه بالأعياد. وظلّ المطران كوبا في مهمّته حتى وفاته في 3 كانون الثاني 1841. هذا كل ما توافر لديّ من معلومات عن موارنة ليكورنا، من دون معرفة هل استطاعوا أقامة كنيسة لهم أم لا.

 الموارنة في السلطنة العثمانية_ تركيا

سكن الموارنة في أرجاء السلطنة العثمانية، وتوزعوا على عدة مناطق نذكر منها؛ أضنه، وبوغاز، والآستانة…

أ-في أضنه: أوردت إحدى الوثائق ذكر أبناء طائفتي الموارنة والروم الكاثوليك الموجودين في أضنه، والمحتاجين إلى كاهن لخدمتهم. إذ إنّ مسيحيي تلك المنطقة كانوا في أغلبيتهم من الأرمن الأرثوذكس والقسم الآخر من أتباع الطقس الآريوسي. فطلب أحد الموارنة المقيمين هناك، ويدعى الخواجا نصرالله، إلى السر عسكر، السماح لأبناء طائفته وطائفة الكاثوليك بإحضار كاهن من إحدى الطائفتين لخدمتهم. وبعد موافقة سعادته تم الإتصال بكهنة حلب، فتكلموا مع الأب رومانوس حجار الحلبي الماروني، فطلب بدوره إلى البطريرك حبيش والى رئيسه العام الأب عمانوئيل سلامه المتيني منحه الإذن بالتوجه إلى أضنه لخدمتهم، فجاءت الموافقة له في 24 تموز 1838.

ب_ في الآستانة: عاش الموارنة أيضاً في الآستانة منذ القرن السابع عشر، وكانوا يملكون ديراً فيه كابيلا صغيرة وما يثبت قدم تاريخ وجودهم هناك، إحدى رسائلهم التي أكّدوا فيها أن أجدادهم هاجروا إلى المدينة المذكورة أوائل القرن المذكور، ودوِّنت أسماؤهم في لائحة، ووُضعوا تحت الحماية والحفظ، فقدموا في المقابل الخضوع والطاعة للسلطنة . خلال فترة بطريركية يوسف حبيش، عُيّن لهم ولإخوانهم من الطوائف الكاثوليكية الأخرى، الأرمن، والروم، والسريان، والأقباط، والكلدان، وكيل روحي هو الخوري يعقوب الورتبيت دشوكوريان Jacob wartabit DOCHKORIAN (المطران لاحقاً) بتاريخ 16 كانون الثاني 1831. برز من موارنة الآستانة آل حوّا الذين ساندوا الطائفة في معظم مشاريعها، بفضل نفوذهم المادي والسياسي، إذ تبوّأوا مراكز إدارية مهمّة داخل السلطنة. وكثرت المراسلات بينهم وبين البطريرك حبيش تضمّنت موضوعات متنوعة من معايدات وتهنئة ومودة واطمئنان إلى صحته، وأيضاً أخباراً عن أحوالهم وأحوال إخوانهم الموارنة داخل السلطنة… وفي خريف 1838 رفع الياس حوا الى البطريرك حبيش كتاباً أفاده فيه بأن أبناء الطوائف الكاثوليكية، من موارنة وأرمن وروم وسواهم، قد تعرّضوا لسلسلة اضطهادات من قبل بعض الجماعات هناك. وبعد تدخل فرنسا عبر قنصلها لدى الدولة العليّة، أصدرت الأخيرة فرماناً تضمّن عدة نقاط، أبرز ما جاء فيه:

إطلاق المنفيين من أبناء الطوائف المذكورة وإرجاعهم إلى أوطانهم؛

إعادة بيوتهم وأملاكهم؛

حماية السلطنة لهم من جور المعتدين وظلمهم.

تنصيب مرسل من طائفة الأرمن لرعايتهم في الممالك العثمانية، بتصريح وبراءة من الدولة العلية؛

إطلاق حريتهم داخل السلطنة بممارسة طقوسهم وعباداتهم داخل كنائسهم من دون معارضة أو مضايقة من أحد.

ثم رُفعت إلى حوّا لإبداء رأيه فيها وموافقته. فاعتذر بحجة عدم تخويله القيام بذلك، إذ إنّ هذا الأمر عائد لشخص البطريرك حبيش. وذكّر حوّا بصدور فرمان عالي الشأن من السلطنة، كان قد ثبّت بموجبه حقوق طائفته. وأبدى باسمه وباسم عموم أبناء الطائفة عدم رضاهم عن خضوعهم لسلطة الأبستولوس المذكور. وفي المقابل أكّد تمسّك طائفته بالكنيسة الكاثوليكية من دون دخولهم ضمن براءة الكاثوليكيين المذكورة آنفاً. ثم طلب إلى البطريرك حبيش إعلام قداسة الحبر الأعظم والدولة الفرنسية والقاصد الرسولي في لبنان، التدخل لدى الباب العالي لأجل حفظ ابناء الطائفة المارونية وصونهم من الأخطار التي يمكن أن تُحدق بهم في أي وقت . فرد البطريرك حبيش بتاريخ 1 شباط 1839 شاكراً للياس حوا جهوده في دفاعه عن حقوق الموارنة في الآستانة وعدم خضوعه لتلك التدابير. كما أورد عزمه على إطلاع الحبر الأعظم والمجمع المقدّس على الأمر. بعد ذلك، أبرق البطريرك حبيش إلى السلطان عبد المجيد، متمنياً عليه تثبيت الياس حوا وكيلاً عن الطائفة المارونية داخل السلطنة. فكان له ما أراد، ولربما جاء موقف السلطنة الإيجابي والسريع من طلب البطريرك حبيش، في سبيل التقرّب منه خاصة في تلك الفترة، إذ خضعت إمارة الجبل الى الحكم المصري. ثم طلب غبطته إلى الصدر الأعظم محمد رؤوف باشا توصيته بالياس حوا وأولاده، معلناً أنهم أصبحوا وكلاء الطائفة في الآستانة لدى الباب العالي. وطُرحت تساؤلات في موضوع العلاقة مع السلطنة، منها هل على النصارى الموجودين تحت إدارة حكّام الدولة العثمانية، التزامهم الخضوع لشرائعها المدنية والدينية، سواء في قسمة الميراث أم خلافه من أنواع المعاملات المدنية، أم تمسكهم برسوم دياناتهم المسيحية وشرائعها في ما خصّ الأمور المذكورة؟ فأصدرت الإدارة العليّة قراراً أفاد بأن النصارى الخاضعين تحت سلطتها، ملتزمون ذمّة بالخضوع لشرائعها المدنية وحفظها، كقسمة الميراث والمعاملات المدنية الأخرى، وهي عادلة وعائدة لخير الجميع، باستثناء ما يضاد رسوم ديانتهم المسيحية ويعارضها. ومن يخالف منهم هذه الشرائع المدنية، يُجرَ عليه العقاب، مما يدل على مدى تحكم السلطنة بزمام الأمور المدنية والشرعية، وخضوع جميع رعاياها من أي طائفة كانوا لها. 

 وبما أن الكنيسة المارونية تتبع دينياً الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسها البابا، فقد عرفت فترة تولي البطريرك حبيش السدة البطريركية علاقات بالكرسي الرسولي، محورها الشؤون الكنسية بالدرجة الأولى.

الخاتمة

        انتشر الموارنة في ارجاء عدة من العالم، حتى فاق عددهم بأضعاف اليوم اعداد اللبنانيين المحليين، وحين نتحدث عن الهجرة، لا نتناول في الغالب، مسيرتهم النضالية في هذا الصدد، فكم من المضايقات التي عانوها ان من الناحية المعيشية او الروحية او النفسية او الاجتماعية والثقافية… وصحيح ان البعض من المهاجرين الموارنة الموارنة استطاع كسب مقاعد مهمة في الاغتراب، وهنا نتوقف عند آل ملحمة ودورهم في تركيا، وآل كوبا الموارنة ايضا في ايطاليا، وكم من المساعدات المعنوية والمادية التي قدمها ابناء هاتين العائلتين الى الكنيسة والطائفة المارونية اواسط القرن ١٩، بفضل علاقاتهم الوطيدة مع ارباب الحكم. وفي المقابل، تعرض موارنة الاغتراب خلال تلك الفترة لاغراءات عدة لكي لا نقل لمضايقات، فمسألة الليتنة سادت وبقوة حينها، فسعى الاكليروس الغربي اينما كان جاهدا الى تحويلهم عن طقسهم الماروني وجعلهم لاتيناً، وللغاية تلك، جابهت الكنيسة المارونية هذه المسألة عبر ارسال كهنة موارنة الى مختلف جهات الاغتراب ومساعدتهم قدر المستطاع في بناء كنائس لهم، لا سيما وانهم يفتقرون الى معابد خاصة لهم، فكانوا يمارسون الاسرار في اغلب الاوقات في كنائس اللاتين، وما ساعد بعضهم على البقاء على طقسهم الماروني هو عدم انقطاع التواصل مع الوطن الام . هذا ولا يخفى عن تحوّل كثيرين منهم الى مذاهب مسيحية متعددة. هذا نموذج عن واقعهم الروحي، في جهات محددة، خصوصا وان الهجرة في القرن التاسع عشر شهدت ذروتها وصحيح ان اعدادهم بداية كانت ضئيلة لكنهم جذبوا المئات ثم الالاف لاحقا.

***

*د. روني سمعان خليل محاضر في الجامعة اللبنانية قسم التاريخ، كلية الآداب الفرع ٤ وفي العمادة وكلية التربية الفرع الاول.

لائحة المراجع

أرشيف بكركي، خزانة البطريرك يوسف حبيش، وثائق متعددة عائدة الى الاغتراب الماروني خلال فترة بطريركيته.

د. عبدالله الملاح، الهجرة من متصرفية جبل لبنان ١٨٦١ _ ١٩١٨، بيروت ٢٠٠٧.

المطران بطرس الجميّل، “الأبرشيّات المارونيّة ــــ أبرشيّة قبرس”، مجلة المنارة، 1992.

الأب فيليب السمراني، الموارنة في جزيرة قبرس، مطبعة قلفاط، بيروت، 1979.

روني خليل، البطريرك يوسف حبيش 1823- 1845 عصر الانجازات الكبرى، 2017.

Sami KURI. S.J, Une histoire du Liban à travers les archives des Jésuites 1816-1845,.  

الأباتي بطرس فهد، “الرهبانية المارونية المريمية، الحلبية سابقاً”، مجلة المنارة، السنة 29، العدان الثاني والثالث 1988.

الأباتي بطرس فهد، دليل أديار لبنان   ، ١٩٩٠.

المطران يوسف ضرغام، “أبرشيّة مصر والسودان”، مجلة المنارة، 33، العددان 1 و2، 1992.

 مسعود ضاهر، الهجرة اللبنانية إلى مصر “هجرة الشوام”، منشورات الجامعة اللبنانية، قسم الدراسات التاريخية 34، بيروت، 1986، ص 103 و104؛ وجوزف لبكي، الانتشار الماروني في العالم.

 الأب لويس بليبل، تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، مج2، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959.

مفكّرة المطران عبدالله الخوري، يومياته إبّان المفاوضات من أجل لبنان الكبير، باريس، 1920 وملحقان بالمستندات والأعلام، مراجعة وتقديم سامي سلامه، منشورات جامعة سيدة اللويزة، لبنان ومكتب الأبحاث والإنماء، ط1.

القس بطرس خويري، تاريخ الرسالة المارونيّة في القطر المصري 1745-1927، مطبعة يوسف كوى مصر، 1927.

اخوتنا الراقدون بالرب، الرهبانية المارونية المريمية، أمانة السر، دير سيدة اللويزة- زوق مصبح، 2005.

الأب لويس صفير، تاريخ الرهبانية المارونية الحلبية ومشاهير رهبانها، جمعه وحققه وطبعه الأباتي بطرس فهد، لا دار نشر، 1993.

الخوري ناصر الجميل، مدرسة عين ورقة في الذكرى المئوية الثانية لتأسيسها، لا دار نشر، بيروت، 1989.

المطران يوسف الدبس، الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصل. دار لحد خاطر، ط ٤، ١٩٨٧.

الأب اغناطيوس سعادة، “رد متى شهوان على سؤالات البطريرك مكسيموس مظلوم ودحض الأجوبة الثلاثة” مجلّة المنارة، السنة 31، العدد الأول، 1990.

سليم خطار الدحداح، “الكونت رشيد الدحداح وأسرته”، مجلة المشرق، العدد 10، 1901.

الأب مارون كرم، رهبان ضيعتنا، الكسليك، ١٩٧٥.

طنوس الشدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1970، جزء 2.

عيسى الحسن، الدولة العثمانية، عوامل البناء وأسباب الانهيار، ط1، دار الأهلية، عمّان، 2009.

نوفل نعمة الله نوفل، كشف اللثام عن محيّا الحكومة والأحكام في إقليمي مصر وبرّ الشام، قدّم له وحقّقه وأعدّ ملاحقه وفهارسه ميشال أبي فاضل وجان نخول، جرّوس برس، طرابلس- لبنان، 1990.

Dictionnaire d’histoire de France, Alain DECAUX et André CASTELOT، Librairie académique, PERRIN, 1981.                                                                                                                     

***

*غداً 14-2- 2022 ورقة الإعلامي إدمون طوق – سيدني

اترك رد