بقلم: الباحث حنا عبود (*)
يُفصِح المقال الذي كتبته أمال قرامي في “أفق” تحت عنوان “أيّ دور للمثقفين بعد الثورات العربية؟” عن إرادة نبيلة في التغيير، وهذا ما يدعو إلى التفاؤل، ففي تعاظم الاستياء من الوضع الثقافي إثارة للوضع الثقافي وتثوير له.
فهي تُعيد طرْحَ علاقة المثقف بالجماهير ووسائل التعبير وعمليات التغيير. وإذ نضم صوتنا إليها لتحفيز الثقافة، نُقصر كلامنا، لتوضيح مرامنا، على عصرين: عصر الحداثة (القرن العشرين) وعصر العولمة (القرن الحادي والعشرين) حيث تعاظم دور القوى العالمية، السياسية لا الثقافية، في الإمساك بالأحداث، مهما كانت صغيرة، مستخدمة كل الأساليب، ومنها المجموعات المتشددة. فمن المتفق عليه أن الحداثة بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، إلا أن هنري لوفيفر في كتابه “ما الحداثة؟” يرى أن الثورة الشيوعية هي فاتحة الحداثة. ومهما اختلفنا معه، لا بد أن نقِـرَّ بدور هذه الثورة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث ظهرت، بوهج منها الانقلابات العسكرية في هذه القارات الثلاث، فقضت على كل شيء من “أسلوب الحكم الحديث” أو الأسلوب الديمقراطي، مما جرّ التخلف في جميع المجالات بصورة لم يسبق لها مثيل، فكل الأنظمة العسكرية نسخةٌ قريبة قليلاً، أو بعيدة قليلاً، من النظام اللينيني، الذي استغل “الماركسية” التي لا تزال تؤثر حتى اليوم في الفكر العالمي، بل نكاد نقول إنها المؤثر الأشدّ فعالية في الميدان الثقافي. لكن الماركسية شيء، والثورة اللينينية شيء آخر.
بعد الثورة تغيّر كل شيء تقريباً، فقد سَجَن لينين كل من لم يهاجر من طبقة الإنتلجنسيا، ولما راجعه غوركي لإطلاق سراحهم نهره وأمره ألا يتدخل “فما الأدب سوى بزال (برغي) في عجلة الثورة”. وهناك تفصيل لذلك في كتاب للينين مترجم إلى العربية بعنوان “في الأدب والفن”. أما الذين ساروا مع الثورة من أمثال أوستروفسكي وألكسندر فادييف وفاندا فاسيليفيسكا وسواهم، فأنتم تعرفون أدبهم “الفولاذ سقيناه” و”الحرس الفتي” و”في الحب” و”الأوبكوم السري” و”زويا وشوريا”… ولكم أن تقارنوا. إن الإنتلجنسيا لم تَـلْـقَ نهايتَها على يد القيصر، بل على يد لينين. ومن لم يقض عليه لينين قضى على نفسه أمثال ماياكوفسكي، ومن بقي حياً أعلن الموالاة مثل إيليا أهرنبورغ، حتى أتيحت له الفرصة بعد انقلاب خروشوف فكشف موقفه الحقيقي في رواية “ذوبان الجليد”.
والإنتلجنسيا الروسية هي أم الأفكار المتنوعة من ماركسية (بليخانوف) ووجودية (برديائيف) وفوضوية (كروبتكين) ونهلستية (أرتسيباشيف) وليبرالية (بونين) ونقدية (شكلوفسكي)…فالعالم لم يعرف في تاريخه إنتلجنسيا ثقافية متنوعة مؤثرة عالمياً كالإنتلجنسيا الروسية. ولا أقصد في فترة ما قبل ثورة لينين، بل في ثورته وما بعدها، فنذكر مثالاً على ذلك رواية زامياتين “نحن” وكيف ألهبت هذه الرواية خيال الكُـتّـاب الإنكليز والعالم. وبذلك تكون الثورة اللينينية أول ثورة تنتصر فيها الأيديولوجيا، وتُـباد الثقافة، وتهان الإنتلجنسيا، ويُقضى على الأدب…
وهذا ما حصل في القارات الثلاث على مدى عصر الحداثة، فالخوف من الثقافة سمة عامة لثوراته. فعلى مدى القرن العشرين ظهرت الانقلابات العسكرية في القارات الثلاث.. وكل الحكومات التي جاء بها العسكر تتبع النمط اللينيني، حتى المعادية للماركسية واليسار، فتعلن على الفور الأحكام العرفية، وتزج المعارضين في السجون من دون محاكمة، إلى أن يموتوا أو يزول الانقلابيون أنفسهم. وكما فعل لينين بالصحافة ووسائل الإعلام والإنتلجنسيا والأدباء والأدب، فعلوا هم. وكما انتشرت تماثيله انتشرت تماثيلهم، وكما كان هناك حزب حاكم واحد، مع ملحقاته التي يشرف عليها، من منظمات الطلاب والعمال والفلاحين، كذلك كان للانقلابيين… وبذلك جرى القضاء على المجتمع المدني بالكامل… هكذا كان الأمر من أندونيسيا حتى تشيلي ومن الأرجنتين حتى زنجبار.
في العقد الأخير من القرن الماضي صفيت هذه الأنظمة، وبقي منها القليل في العالم العربي، فـ “العربية” صفة لحصر مكانها، مثل “الأوروبية الشرقية” سوى أنها أكثر تعقيداً بسبب تركيب مجتمعاتها التي تجمع في صفوفها ألواناً كثيرة من الأيديولوجيات المتصارعة أو المتباينة: الاجتماعية والسياسية والقومية والوطنية والعرقية والدينية، بل الطائفية والمذهبية، فالاستبداد جمّاع تناقضات المناوئين… ولكنها لا تشبه الإنتلجنسيا… إنها تصفية لتركة القرن السابق، فكما انهارت أنظمة المعسكر الاشتراكي الأوروبي ستنهار الأنظمة التي نشأت معه أو بسببه أو اعتمدت عليه.
الثقافة والأدب
الثقافة كلمة إشكالية حتى اليوم، فهل هومر الأمي مثقف؟ أو هل كان المجنون أو جرير أو كُثَيْر عزَّة مثقفين؟ بالتأكيد لم يكونوا بحسب المفهوم المستخدم حديثاً. ولكن من جهة أخرى كانوا “مثقفين” إذا نظرنا إليهم من باب التقاليد الأدبية، ولذلك يهتم بهم العالم حتى اليوم. فهناك ثقافة عصر تتقلص بزواله ولا يبقى منها إلا القليل في العصور التالية، وهناك تقاليد أدبية تستمر، بأشكال مختلفة، على مدى الزمن، لارتباطها بالقيم المطلقة من حق وخير وجمال. فإذا أنا درست نقائض جرير والأخطل والفرزدق من ناحية موقفهم من بني أمية ودفاعهم عنهم ضد الخوارج والزبيريين وبقية الفرق، فإني أمارس الثقافة، ولكن إن أنا درست فن النقائض عندهم وكيف انتهى في بلاد الشام إلى قيام فِرَق الزجل المستمرة حتى هذه الأيام، فأنا أمارس النقد الأدبي، بعيداً عن أي ثقافة مضافة. ومن هنا يختلف الأثر الثقافي عن الأثر الأدبي. وعلاقة الثقافة بالسياسة تختلف عن علاقة الأدب بالسياسة. ما جمع الثقافة والأدب بصورة لا مثيل لها في التاريخ هي تلك الإنتلجنسيا الروسية التي دمرتها أولى خطوات فاتحة ثورات عصر الحداثة، كما يحدده لوفيفر.
ومن هذا الباب يمكن أن ندرس السياسة والعادات والتقاليد الاجتماعية والميثولوجيا والأيديولوجيا… ودورها في إغناء، أو عدم إغناء النص فنياً في قيمه المطلقة على غرار ما فعلته الإنتلجنسيا. ونكتفي بمثال من الأدب يشخص ثورات القرن العشرين- كل ثوراته- لنبين أن الموقف الأدبي أثبت من الموقف الثقافي، وأشد رصانة وعمقاً، كما دلت على ذلك الإنتلجنسيا، التي أبادها لينين فذهبت ثقافتها وبقي أدبها.
مثال من شكسبير
كتب شكسبير “مكبث” بعد ت 600 سنة من مقتل الملك المذكور، وقبل ت 300 سنة من ثورة لينين والثورات الانقلابية التي انتشرت في آسيا وأفريقيا اللاتينية. ولا نعتقد أن هناك تشخيصاً لهذه الثورات أصدق من هذه المسرحية التي تقدم الموقف الأدبي من المغتصب والمغتصبين. ولنكتف بشخصية مكبث.
في عودته من معركة مظفرة يمر بثلاث ساحرات (يمثلن ما ترسب في عقله الباطن) فتقول الأولى بأنه سيصبح ملكاً، وتطمئنه الثانية بأنه لن يقتل إلا على يد رجل لم تلده امرأة، وتحذره الثالثة بأنه لن يقتل إلا إذا مشت غابة برنام إلى قصره. وبناء على هذه “النبوءات” ترسخ اعتقاده بنفسه أنه الزعيم الخالد الذي لن ينال منه أحد، فاعتقل وسجن ونفى وصادر وقتل وكمّ الأفواه…وهذا ما انتهجه “مكابث” القرن العشرين… ولكن أحد الرجال، المولود بطريقة قيصرية، جمع الجنود وأمرهم بقطع الأشجار الصغيرة لتمويه تقدمهم، وسار بهم إلى القصر.
بلغ الغرور بالسيد مكبث أنه كان يخرج إلى شرفة قصره ويتطلع إلى غابة برنام ليتأكد من جمودها وديمومته. كانت برنام تتقدم ببطء، لكن إيمانه بخلوده خلق فيه غروراً حجب عنه ما يجري أمامه.
لا أظن أن هناك “تشخيصاً” لـ “مكابث” القرن العشرين أوضح وأدق وأعمق مما قدمه شكسبير. ونعتقد أنه مهما بلغ المدوّنون الذين ظهروا مع الموجة الثالثة من شأو وإتقان لن يجاروا هذا الفن، وإن كانوا-ربما- أقدر على تحريك الثورات العربية وغير العربية من مدوّناتهم. إن غابة برنام اليوم أكثر تنوعاً في الأيديولوجيات. والخشية- وإن كانت ضئيلة- أن تُستغَل أيديولوجيا فتكلف البشرية ما كلفته أيديولوجيا لينين: كلفت ثمانين عاماً من المرارة. إن في غابة العصر: الصنوبر والوزال والسرو والزيزفون والصبار وعش الدبابير… ولأول مرة في التاريخ تكون الغابة بلا قيادة ولا زعيم خالد، ولأول مرة يواجه المثقف مثل هذه الحالة. إن مراكز بحوث عديدة منكبة على الدراسة…
أما الأدب فبحاجة إلى وقت، بالتأكيد لن يطول كما طال بين نظام لينين و”ذوبان الجليد” ولا حتى ما بينه وبين انتحار ماياكوفسكي، أو اغتيال مكسيم غوركي. وفي انتظار كلمة الأدب ندعو، مع الكاتبة، إلى إنتلجنسيا التغيير لخلق مجتمع مدني، فالخطأ في العمل خير من قبول المذلة.
*******
(*) نشرة افق
(*) ناقد وباحث من سوريا
كلام الصور
1- غلاف ما الحداثة
2- لينين
3- بليخانوف
4- شكسبير