كانت امرأة جميلةٌ تبيع جسدها على رصيف الشارع، وكانت تدأب كلّ مساء على المجيء إلى المكان نفسه، حيث تنتظرُ المارّة من الرجال لكي تعرضَ عليهم خطيئتهم، فتبيع ويشترون.
وكان في الشارع نفسه منزل فخم لأحد الأغنياء، وفيه امرأة محافظة، لا تخرج من بيتها إلاّ قليلاً، وهي متأبّطة ذراع زوجها، ثمّ تعود إلى المنزل نفسه وتغلق على نفسها الباب.
وذات عشيّة، أطلّت المرأة المحافظة من شبّاك بيتها، وخاطبت المرأة التي تبيع جسدها، قائلة: مضى وقت طويل وأنتِ على هذه الحال، فما أحسبك إلاّ سلعة رخيصة يتجاذبك الرجال ويلهون بك لهواً، ثمّ يرمون بك جثّة هامدة، ولا يعودون يطلبونك مرّة أخرى إلاّ لحاجة في نفوسهم.
قالت المرأة التي في الشارع: سامحيني يا أختي على سوء تصرّفي، ولو كنتِ تعلمين كيف أنّ الأقدار ساقتني إلى هذا الدرك من الانحطاط، لأشفقتِ على حالتي، وما تجرّأتِ على لومي.
قالت المرأة الغنيّة: إنّ الجوع والعطش لأفضل بكثير من أن يصبح جسدك بضاعة في سوق البيع والشراء، أما سمعتِ الوصيّة التي تقول: لا تزنِ؟
بلى سمعتها، أجابت الأخرى، وهي تبتلع غصّة حارقة… وتابعت: سمعتُها لكنّني ضحيّة أنا أيضاً، فكلّما يموت جسدي على فراش، تموت روحي معه ألف مرّة… لقد جرّبتُ كثيراً أن أكون في حالة أفضل ممّا أنا عليه، فما وجدت إلى ذلك طريقاً.
وفي تلك اللحظة، مرّ في الطريق شابٌّ فقير، مهترئ الثياب، حافي القدمين، يبدو عليه الضعفُ والعذاب، فرأى المرأة الغنيّة في النافذة، فطلب منها قليلاً من الطعام، فنهرته وأقفلت نافذتها بغضب. ثمّ التفت إلى المرأة الثانية ولم يكلّمها، بل أراد أن يتابع سيره غير عابئ بها، لكنّها استوقفته وقالت له: إنّ معي قليلاً من الدراهم التي حصلتُ عليها للتوّ، وكنت أريد أن أشتري بها بعض الخبز لأطفالي الصغار… سأعطيك إيّاها.
قال الشابّ، وقد بدت على وجهه النحيل علامات العجب: كيف ستطعمين أولادكِ يا امرأة، إذا وضعتِ النقود التي معكِ في يدي؟
أجابت المرأة: إنّ الله لا يتركني، وبفضله سأجد طريقة لإطعام صغاري.
وبينما كانت المرأة تأخذ نقودها لتعطيها إلى الشاب، ابتسم ابتسامة رقيقة وقال لها:
إن الله نفسه سيتدبّر أمري أنا أيضاً. أعيدي نقودك إليك، فأنتِ تحتاجين إليها أكثر منّي، ولكنْ اعلمي يا امرأة… أنّ خطيئتَكِ خلّصتكِ.
قال ذلك وغاب في عتمة الشارع.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية – سيدني