1- المحقّرون
أقمتُ لمدّة قصيرة عند جماعة، ورأيت منهم في الأيّام الثلاثة التي قضيتها عندهم ما يشيب له شعر الغلمان، فقد أخذني أحدهم إلى جبل قريب حيث ترتفع أعمدة عُلّق عليها أناس كثيرون، فارتعبتُ من هول الشهد، وحزنتُ على هؤلاء الناس الذين تتأرجح أجسادهم في السماء الداكنة، وكلّما هبّت الريح يتمايلون، كأنّهم يسعون للقيامة من الموت.
سألت الرجل عن هؤلاء المساكين، فأخبرني أنّ قومه من المحقّرين الذين لا يطيقون أن يكون بينهم إنسان يفكّر، أو يكتب، أو يتفلسف، أو يبدع في أيّ شأن من شؤون الحياة، وقد عاقبوا كلّ نابغة وطبيب وعالم، حتّى غصّت
الجبال والأودية بتلك الأعمدة التي تنحتُ الفضاء بصريرها المتواصل.
وقال الرجل أيضاً: لم يبقَ في هذه الأرض إلاّ بشر قليلون هم الذين يكتفون من الحياة بما قلّ، ولا يعملون إلاّ لكي يأكلوا ويشربوا.
وسألني الرجل عن حالي، وماذا كنت أفعل في حياتي قبل أن أصل إلى دياره، فقلت له: أنا مزارع بسيط، لا يحدوني أمل إلاّ أن أزرع وأحصد وأعيش في الكفاف.
فرحَ محدّثي فرحاً عظيماً، وبدا السرور على وجهه، وقال لي: يمكنك أن تبقى عندنا إلى ما تشاء، فنحن نعتبرك واحداً منّا. تالله ما أعدلَ المساواة، فليس لأحد فضل على أحد… لا بالتقوى ولا بعمل صالح!
تركني الرجل ومضى في سبيله، وأنا لا أزال أحدّق في تلك الأجساد المصلوبة في عين الزمان، وترتعش روحي في داخلي من هول الحقيقة وفظاعتها. وبينما أنا في تلك الحال، مرّت قافلة من بلادي، فيها مكارون يعرفونني جيّداً، وما إن وقعتْ عيونهم عليّ، حتّى أسرعوا ليلقوا عليّ السلام، ويسألوني عمّا حدث لي، وكيف وصلتُ إلى هذه الناحية، فقلت لهم: إنّ دابّتي نفقت من العطش خلال سفري الطويل، وتهتُ في الصحراء حتّى اهتديتُ إلى هؤلاء القوم.
قال لي أبناء بلادي: ونحن سنبيت هذه الليلة هنا، وفي الصباح، سنتابع طريقنا إلى بلاد الإفرنج.
في ذلك الليل، لم يغمض لي جفن، وتسلّلت تحت جنح الظلام، لكي أفرّ من تلك البلدة، وأولّي الأدبار، ولم أعد أزورها من ذلك الحين.
2- الناكرون للشمس
شاهدت خلال سفري البعيد رجلاً يسير الهوينا ويتعثّر في مشيته، ويستعين بعصا قطعها من غصن نحيل لكي لا يقع، فظننت للتوّ أنّه فاقد البصر، وخفت أن أسأله عن منزل كنت أقصده، فيأخذني من يدي ونسقط في حفرة. لكنّني عندما اقتربت منه اكتشفت أنه يضع عصبة على عينيه، فلا يرى، فاعتقدت للوهلة الأولى أن الرجل قد فقد صوابه، واستغنى عن بصره من طوع نفسه لكي يعشق الظلمة، أو لعلّه كرهَ الناس فلم يعد يطيق رؤيتهم.
اقتربت منه وحيّيته، فأجابني بابتسامة صفراء، وهو يتحسّس المكان والزمان ليعرف من أنا. فقلت له إنّني غريب عن هذه الديار وقد لفتني منظره، وكيف أنّه غطّى عينيه… وسألته عن حاله، فقال لي إنّ عينيه سليمتان ولا يشكو من ضعف نظره، ولكنّ أهل مدينته كانوا ينكرون الشمس ويقولون إنّها غير موجودة، وكان هو يعترض على رأيهم، ويدلّهم على الشمس وهي في كبد السماء، ويحاول أن يقنعهم بأنّ الشمس فوق رؤوسهم وتضيء لهم الطريق. وعبثاً حاول أن يقنعهم بتلك الحقيقة، حتّى غضبوا منه، واضطهدوه، ومنذ ذلك الحين، قرّر أن يضع عصبة على عينيه، لكي لا يرى إلاّ ظلاماً، وإذا سأله أحدهم عن الشمس، يقول: إنّها غير موجودة.