“المرأة المجهولة” لجميل الدويهي

 

كنتُ أجلس عند باب بيتي، وعلى مقربة منّي ثلاثة أكياس منتفخة من القماش، بدا عليها الإرهاق وكادت أن تتمزّق لكثرة ما حملتُها على ظهري ومشيتُ بها في المدن.

شعرتُ بالجوع ولم يكن معي ما أقتات به، فأخذتُ أحد الأكياس إلى السوق، وقلت: مَن يشتري منّي سعادتي؟

استغرب الناس من منطقي وبيْعي الغريب، فاقترب أحدهم منّي، وكان غنيّاً كما يبدو من هيئته ولباسه، وسألني:

هل حقّاً أنت تبيع سعادتك؟

قلت: نعم، أيّها الرجل الذي لم أعرفه من قبل. هذه سعادتي في الكيس، فهل تشتريها؟

أخرج الرجل الغنيّ من جيبه بعضاً من ذهبه وفضّته، ووضعه في يدي، فأعطيته الكيس، وعدت إلى بيتي.

ومضت أيّام كثيرة، وكان الرجل نفسه يسأل عنّي كلّ يوم، ليعرف إذا كانت لديّ سعادة أخرى أبيعها له، حتّى ضجرتُ منه.

وبعد مدة، عاد إليّ الجوع، فحملت الكيس الثاني إلى السوق وصرخت في الناس: مَن يشتري منّي لامبالاتي؟

تجمهر الناس مندهشين ممّا أعرضه عليهم، وقال واحد منهم:

هل أنت حقّاً تبيع اللامبالاة؟

قلت، نعم… وهي من أغلى ما عندي، فهل تشتريها؟

فقال: لم أعرف اللامبالاة في حياتي، فلا بأس أن أجرّبها.

دفع الرجل ثمن لامبالاتي ومضى في سبيله. لكنّه أصبح يسأل عنّي دائماً ليعرف إذا كان عندي لامبالاة أخرى فأبيعها له، حتى انزعجتُ من سؤاله.

وما هي إلاّ مدّة حتّى داهمني جوع شديد، فحملتُ الكيس الثالث إلى السوق

وطفقت أنادي: مَن منكم أيّها الناس يشتري أحزاني؟

فاحتشد أهل السوق جميعاً حولي، وهم يقلّبون شفاههم، فلم يسبق أن باع أحد من التجّار أحزانه. ولم يجرؤ أحد منهم على سؤالي عن تجارتي، بل تشاءموا منّي، وتراجعوا مستنكرين وغاضبين.

وبقيت وحيداً في السوق حتّى كادت الشمس تغيب، فمرّت من أمامي امرأة جميلة، سوداء العينين، رقيقة الشفتين، ذات شعر أسود ينسدل إلى ظهرها. وعندما رأتني وحيداً ومعي الكيس، اقتربت منّي وقالت بصوت أرقّ من هديل الحمام: ماذا تبيع أيّها الرجل الذي يرتدي عشب الأرض؟

أجبتها وأنا أراقب كلّ حركة من حركات وجهها: أبيع أحزاني.

قالت المرأة: لن يشتري أحد أيّ حزنٍ من أحزانك… إلاّ إذا كان يحبّك.

قلت لها: لا أريد من أحد أن يحبّني، فأنا أحبّ وحدتي وهي تحبّني، وأكتفي بها.

قالت: يبدو عليك أنّك إنسان فقير وطيّب، وأنا ابنة وزير غنّي. سأشتري منك أحزانك… هل أنت راضٍ؟

كاد قلبي يطير فرحاً عندما أخذتْ المرأة نقوداً ووضعتْها في يدي، ودفعتُ إليها بالكيس على عجل، فودّعتني وغابت في العشيّة.

مرّت أيّام طويلة، وأنا ما أزال أنتظر في المكان نفسه، لعلّ تلك المرأة تعود، وتسألني إن كانت عندي أحزان أخرى أحبّ أن أبيعها. لكنّني لم أعد أرى لها وجهاً، ولا أعرف إلى أين أخذتها العتمة.

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني.

اترك رد