أرواح النبلاء لجميل الدويهي

 

 

أحببتُ هذه الجارية… هذه الزنجيَّة الحبشيَّة الضعيفة، منذ أن كانت فتاة صغيرة.

لا أذكر كم مرَّة غسلت قدميَّ، وهي صامتة!

تمنَّيتُ أن أسمع لها شكوى، وكدت أقول لها ذات يوم: أيَّتها الفتاة السوداء، أما حان لكِ أن تثوري؟! أن تنتصبي أمامي غاضبة، وترفضي الإهانة؟!

كانت تسكت دائماً، فكأنَّها تعرف أنَّ قدرها أن تولد، وتكبر، وتموت كشجرة مهمَلة في تراب مالح.

كان عمري آنذاك ستَّة عشر عاماً، وهي في العاشرة. وعندما كبرنا قليلاً، أصبحت أراها جميلة؛ ولعلَّني الملك الوحيد في التاريخ الذي استهوته فتاة سوداء، هي خادمة في قصر أبيه.

أعجبني فيها صمتها، حياؤها، ابتسامتها الساخرة من كلِّ شيء. كنت أراقبها حين ترتِّب المائدة، وتنفخ في النار، وتحتطب، وتكنِّس الأدراج، وتطوي الثياب، وتعدُّ القهوة، وتقصُّ الزهور… وأنظر إليها عندما تهدأ، وتتثاءب، وتخلع ثيابها لتنام؛ فلم أجد فيها شيئاً يجعلني لا أحبُّها. كان سكوتها يحزُّ في قلبي، ويحاصرني بأسئلة صعبة.

طلبت منكَ أن تعتقها، فرفضتَ. وقلتُ لك: هذه الفتاة كبرت في قصرنا، وأصبحتُ أشعر أنَّها ليست غريبة عنَّا، فلماذا لا تعيد إليها ما فقدته في طفولتها المريرة، لتعيش كما يعيش أبناء البشر الآخرون؟!

جدَّفتَ على أفكاري، وانصرفتَ عنِّي دون أن تردَّ بكلمة واحدة مهذَّبة.

كنتَ قادراً على إيجاد مئة فتاة مثلها، تكون جارية في قصرك، ولكنَّك تخلَّيت عن الشجاعة، وتصوَّرتَ أنَّ اتِّخاذ قرار جريء، سيجعلك مختلفاً عن الملوك الذين سبقوك، وستخسر به سلطة موروثة، تتيح لك استعباد مَن وُلدوا أحراراً.

لقد زوَّجتَني، يا أبي، ابنة ملك صديق. قلتَ لي: أبناء الملوك يتزوَّجون بنات الملوك. ولم أجرؤ على الاعتراض، فأنا ولدك الوحيد، ووليُّ عهدك… وسيكون مخزياً لك أن أتزوَّج من جارية.

وضعتُ مصلحة العرش فوق مصلحتي، وصرت زوجاً لامرأة نبيلة. كانت سيِّدة رائعة، لكنَّها تركتني عندما رجعتُ من معركة ضدَّ قبيلة متمرِّدة فاقداً يدي اليمنى. قالت لي: تصوَّر أنَّك ستحملني إلى السرير بيد واحدة! سأسقط منك على الأرض… وتصوَّر أنَّك ستدافع عن مملكة أبيك باليد اليسرى! سينتصر عليك الأعداء، وأصبح أنا سبيَّة…

عادت إلى بيت والدها، وعدتُ أنا إلى واقعي، أجرُّ أذيال الخيبة.

ثمَّ زوَّجتَني ابنة أحد وزرائك، وخاطبتَني قائلاً: ابنة الوزير جميلة، ورصينة كوالدها، فإذا تزوَّجتَها تكون إلى جانبك ملكة حكيمةٌ في المستقبل… أنت ابن ملك، وليس عيباً أن تتزوَّج من ابنة وزير.

وتحقَّقت رغبتك يا مولاي… وعاشت معي ابنة الوزير سنتين. كانت حكيمة كما قلت، ولذلك تخلَّت عنِّي بعدما عدتُ من معركة ثانية فاقداً إحدى عينيَّ. حاولتُ أن أقنعها بأنَّني أستطيع أن أرى بعين واحدة، فقالت: الحكمة تقضي بأن يكون الملك بعينين اثنتين، فسألتها: ما جانب الحكمة في ذلك؟! قالت: العين الأولى تراني بها، والثانية لترى الناس… فإذا فقدت العين التي تراني بها، فإنَّك لن تراني بعد الآن، وإذا فقدت العين التي ترى بها الناس ، فأنت لست بملك.

وبعدها يا أبي، حملتَ إليَّ كتاب التقاليد، فتحتَه أمامي، وأقسمت بروح جدِّي أنَّ أبناء الملوك يستطيعون أن يتزوَّجوا من بنات قادتهم العسكريِّين، ولم أخالف كلامك أيضاً؛ فأنا الآن لا أعتقد أنَّ الزنجيَّة ستكون سعيدة لو زُفَّت إليَّ. وزوَّجتَني ابنة قائد الجيش. كانت بارعة الجمال، وصارمة كأبيها. بل كانت رجلاً أكثر منها امرأة؛ وعاشت معي أربع سنوات، ثمَّ هجرتني بعدما سقطتُ عن حصاني وتحطَّم كاحلي، فأصبحت أعرج، ولم يفلح الأطبَّاء في إصلاحي.

قالت لي زوجتي ابنة العسكريِّ، وهي تغادر قصرنا: إنَّك لا تستطيع الوقوف إلاَّ على قدم واحدة، ثمَّ لا تلبث أن تسقط بعد قليل، فتنهار، وتنهار معك مملكتك.

كانت تلك أطول مدَّة عشتها مع زوجة، وانتهت كغيرها بألم.

لم يبقَ عندي أمل صغير يضيء سواد أيَّامي، إلاَّ تلك الحبشيَّة الرقيقة.

قلت لها ذات مساء: أتقبلين بي زوجاً؟ فارتعدتْ. ظنَّت أنَّني جننتُ. فهمستُ لها: اطمئنِّي! ستكونين زوجتي. وفي اليوم التالي، توجَّهتُ إليك. رجوتُك أن تصغي إلى نصف انسان، فأصغيتَ. رفعتُ قضيَّتي إليك. حاولتَ الاستنجاد بكتاب التقاليد، فرفض أن ينفتح. كنتَ في زاوية صعبة، ولم يكن سهلاً عليك الاعتراف بأنَّ النبل الحقيقيَّ موجودٌ في روح امرأة سوداء، بعد أن سقطت أرواح النبلاء على أدراج القصر وتحطَّمت. رأيتُك بارداً كالثلج. لمست يديك لأصدِّق أنَّك لم تمت بذبحة قلبيَّة. وبعدما نزلت دمعةٌ من إحدى عينيك، هززتَ برأسك موافقاً. وفي اليوم التالي تزوَّجتُ من الزنجيَّة.

مرَّت الأعوام، وفقدتُ عيني الثانية، ولويتُ عنقي وأصابني مرض عضال… والجارية لم تتخلَّ عنِّي لحظة. وأحياناً تنسى أنَّها ملكة، فتسألني إذا كنت أريد أن تغسل لي قدميَّ؛ فأعاجلها بكلمات اعتذار، وأرفعها بيد واحدة إلى فوق، إلى حيث لا يصل الملوك.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني.

اترك رد