كان يأخذني من يدي، أنا ابن السابعة عشرة من العمر، وهو في الستّين، ولم أكن أحب رفقته، ولا كلامه عندما يحدّثني عن الأجداد، فيصيبني السأم والضجر.
ولم أكن مقتنعاً بكثير من رواياته، ففي عمري المبكر كنت أعشق الصدق، وأنزعج من الخرافات… وكان ينصحني بأن أقبّل اليد التي لا أستطيع كسرها ثمّ أدعو عليها بالكسر… لجُوئي الى الله بهذه الطريقة مرير وغير حضاري… لا أريد أن يفعل الله شرّاً، لستُ عاجزاً عن فعله. كنت أفضّل أن أؤلم اليد التي تمتدّ إلى كرامتي، وأقسو عليها… أطالب بالحقّ ولو كان وراء البحار السبعة، فأتبعه على سفينتي. وأعيده إلى الشاطئ كمنارة تضيء.
أحببت الفقراء والفلاّحين وماسحي الأحذية والشحّاذين أمام دور السينما. أعطيت شحّاذاً ليرة كانت في جيبي، وحرمت نفسي من فيلم “أبي فوق الشجرة”. غضب منّي الممثّلون، والكاتب الذي أراد أن يكون الوالد في مكانة أعلى من الولد. ذهبت إلى حديقة المنشيّة، وجلست تحت شجرة أكبر من الزمان، غمرني ظلّها كشبح. منحني قوّة تغلّبت بها على الجوع والعطش… عثرتُ في قرارة نفسي على رجل، وليس معي ليرة واحدة.
امتدّت يده إلى كتفي:
أنت هنا؟ ألن تعود إلى البيت؟ خالتك تحضّر الغداء.
كان صوته عريضاً كحجر طحن. لا اتذكر مرّة أنّ صوته أعجبني. وكنت أتصوّر كيف أنّ الهداهد والغربان وطيور الحجل ستفرّ إلى البعيد لو أنّه أراد الغناء… رجل قديم. خزانة أسرار من خشب الجوز، انحدر من الجرود الباردة إلى المدينة، واحتفظ بطبائع الثلج والزمهرير، وظلّت روحه كمغارة من ظلام.
كنّا نعبر الطريق من رصيف إلى رصيف، مسافة قصيرة لا تتعدّى أمتاراً قليلة، وكان يمسك بيدي… كم مرّة أفهمته أنّني أصبحت شابّاً، وهو ليس أبي الحقيقيّ، فليس عليه أن يخاف على حياتي أكثر ممّا أخاف عليها! وبينما نحن في وسط الطريق، وصلت سيّارة الزعيم. عرفتها من لونها الكحليّ. سيارة أميركية كان يمكن اختصارها، للحفاظ على البيئة. كلّ باب من أبوابها أكبر من سيّارة “ميني كوبر”؟ ما بها الميني؟ جارتنا عندها واحدة، وعندها تنّورة ميني تساوي كنوز الفراعنة.
تحرّرتُ من اليد الثقيلة التي تمسكني… تمنع عنّي الحرّيّة، وتضغط بقوّة على شراييني فتصبح زرقاء. وقفت كعمود على الاسفلت، أمام سيّارة الزعيم… ساد هرج ومرج. تعجّب المارّة… ولولا أنّ سائق السيّارة أوقفها في اللحظة المناسبة، لكانت اجتاحتني…
حاولت اليد ذاتها أن تعيدني إلى برّ الأمان، فرفضت بعناد… وقرّرت أن أمضي في احتجاجي… فانضمّ إليَّ رجال ونساء قليلون، لكنّ آخرين لم يحرّكوا ساكناً، بل كانوا رافضين أن يكونوا مثلي، من قطّاع الطرق.. نزل رجلان مسلّحان من السيّارة الاميركية. شهرا سلاحيهما. فنهرهما الزعيم قائلاً: ألا ترون أنّه صبي؟ اتركاه وشأنه!
ثم التفت إليّ، وسألني: ماذا تريد؟
اعتذر زوج خالتي، وارتبك، وتعثّر في مشيته وكلامه. أمّا أنا فقعدتُ على الاسفلت. وقلت: أريد خبزاً للجائعين، وماء للعطاش، وحرّية للمساجبن، وثياباً للعراة، وضوءاً للبيوت المظلمة، وأريد محكمة عادلة للصوص والقتلة… فأستعيد اموال المساكين التي استولت عليها المصارف…
كان الرجال والنساء الذين معي يكرّرون ما أقوله. ولم ينبس الزعيم ببنت شفه، بل أشار على مرافقيه بأن يعودا إلى داخل السيارة، وبعد لحظة انطلقت إلى الخلف، ثمّ عادت من حيث أتت.
نجحتُ في ثورتي، وكان معي قليل من الناس، ولو ثارت المدينة على الظالمين والعُتاة، لكنا استطعنا أن نغيّر العالم. نظرت إلى الوجوه فرأيتها مندهشة وعليها فرح الانتصار بما فعلناه معاً، أمّا زوج خالتي، فاستشاط غضباً منّي، واعتقد أنّ الدنيا انتهت عندما غادر الزعيم وودّع المشهد… فأخذ مسدسه، وراح يطلق النار مرّة في الهواء، ومرّة على الأرض، فهرب المارّة مذعورين. وظل يطلق النار فأصاب قدمه، وصاح من الألم، وهو يوجه اليّ عبارات الإهانة والوعيد.
ارتعدتْ فرائصي، وخشيت أن تصيبني إحدى رصاصاته، وسألت نفسي في غمضة عين: هل أشفق عليه وأسارع إلى نجدته، وهو حانق، وقد ينهال عليّ بقبضته فيكسر وجهي؟ أم أتركه ينزف ويلعن حظّه التعيس إلى أن يأخذه أحد إلى المستشفى الحكومي؟
أغاظني جدّاً انه كاد يقتل نفسه، لا لسبب مهمّ، ولا لتحرير الأرض من العدوّ، بل لأن سيارة الزعيم لم تكمل الطريق، فاندثر الأمل، وتلاشى الوجود.
منذ ذلك الحين، بدأت أشعر بأنّ في روحي ثورة، وفي قلبي معبداً للتمرّد، بينما كان رجل آخر أكبر منّي سنّاً بكثير، يعرج من رصاصة أصابت كرامته، وأخبره الأطبّاء بأنه سيعرج كلّ حياته.
مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيني 2022