(كتبت في حافلة بين جبيل وبيروت عام 2004)
المسافة من هنا إلى بيروت فيها كثير من الوقوف، والتردُّد، والحيرة. والحافلة التي تقلَّ أناساً عاديِّين، من العمَّال، والفقراء، والخدَّام الأجانب، لا تكاد تعبر الجسر، حتَّى تتوقَّف، ويتمتم سائقها بكلمات مبعثرة هي تعبير عن اشمئزازه من كلِّ شيء.
وكانت وجوه الناس المعلَّبين في الحافلة مشمئزَّة أيضاً، فليس من شيء يوحي بالوصول، ولا يعيد بعض الثقة إلى النفوس إلاَّ مذياع شاحب الصوت، تتسلَّل منه إلى الآذان أغنية، فيصيح أحد العجائز، وكأنَّه طالع من مقبرة: “هل حان وقت الأخبار؟” أمَّا الآخرون، فزائغون، يبحثون في الأبنية عن مسكن لأرواحهم الميتة، وفي الأزقَّة عن فضاء لأحلام لم يروها بعد. وتدخل إلى الآذان أبواق عالية، وإلى الأنوف رائحة مازوت، وتشتعل بعض الأفواه بسعال…
ينهمر المطر غزيراً على أشجار الطرقات، وتتراءى المحالُّ مضاءة بشموع انتظار وقلق… ويتراكض المارَّة في وجه الريح، خائفين على وجوههم أن تتعطَّل، وأفكارهم أن تذوب في الماء.
وينهال الرعد بعصاً عمياء على المدينة، فينشقُّ ثوبها ويندثر، ثمَّ يتلاشى الضوء عن فضَّة السماء، وتنطفئ وراءه أضواء المصابيح، ويسود ظلام في الأفق… غير أنَّ مصابيح السيَّارات، تشعشع أكثر، فلا يظلُّ من المشهد إلاَّ ظلام بعيد وأنوار قريبة. وترتفع جلبة في داخل الحافلة، عندما تبدأ نشرة الأخبار. وعلى الرغم من أنَّها لا تختلف عمَّا سمعه الناس من قبل، فهي تبقى موعداً مع القدر والحقيقة المرَّة، وتعطي أملاً في الوقت نفسه بأنَّ الحياة يجب أن تتواصل، ولا تتوقَّف عند موت من هنا، وصراخ من هناك.
أين أصبحنا؟
ترتفع حنجرة، فتضيع كلماتها في الزحام. وأهمس في أذن زوجتـي:
لا نزال في جونيه. قد لا نصل أبداً إلى بيروت.
وتشير زوجتـي إلى بطنها، وهي تبدي قلقاً. وأفهم منها أنَّها خائفة من أن تلد في الحافلة.
كنَّا ذاهبَيْن فعلاً إلى الطبيب، فزوجتـي حامل في شهرها التاسع، وسيكون رهيباً حقّاً أن تلد هنا…
أشرت عليها بالصبر، لكن بدون طائل. قالت بألم: المغص يا حبيبي، المغص…
- هل اشتدَّ المغص عليكِ؟…
قلتُ ذلك، والتفتُّ إلى حيث يجب أن يكون السائق، فصرخت إليه بقوَّة: عجِّل بربِّك… عجِّل…
تهافتت حولنا نساء، وتراجع الذكور خجلاً، وراحت امرأة عجوز تساعد زوجتي، حتَّى أنجبت طفلاً أسميناه: “ممكن”…
وبعد أيَّام قليلة تكشَّفت ملامح “ممكن”، فإذا هو بهيُّ الطلعة، كبير العينين، بارز الشفتين والخدَّين، سريع الحركة كأنَّه سنجاب.
كان “ممكن” للركَّاب شغلهم الشاغل، ولكنَّ شيئاً وحيداً كان يحزُّ في قلبـي: أنَّه ولد وعاش طفولته في حافلة، لا تكاد تتحرَّكُ خطوةً إلى الأمام، حتَّى تعود خطوتينِ إلى الوراء.
مرضَ “ممكن”، فخفنا أن يموت، لكنَّ الحظَّ فاجأنا بوجود ممرِّضة في الحافلة. قالت: لا تخافوا… يبدو أنَّه أصيب بضيق في التنفُّس من جرّاء استنشاق الدخان… سأعطيه دواء من حقيبتي… لا يجب أن تقلقوا…
شفي الولد تماماً، وعاد إلى القفز من حضن إلى حضن، فوصل إلى ذراعي كاهن، فقال: يجب أن نُعمِّدَه… أنا جاهز لأفعلَ ذلك… نحتاج فقط إلى عرَّابين…
هتفت بغبطة: أنا العرَّاب وأمُّه العرَّابة…
-لا يصحُّ ذلك… أقترح أن يكون سائق الحافلة عرَّابه، والممرِّضة عرَّابته…
فرحْنا كثيراً بأنَّ “ممكن” أصبح معموداً، واخترنا له اسم “أيُّوب”، وكنَّا
نتمنَّى أن نصل إلى بيروت، فندعو الركَّاب إلى محلٍّ للحلوى، ونتقبَّل منهم التمنِّيات الطيِّبة كما يليق بصاحب المناسبة، غير أنَّ الحافلة لم تكن قد تقدَّمت أكثر من بضعة أمتار.
مرَّت الأيَّام، والحافلة في مكانها، فكبر الصبيُّ… وأصبح في العشرين من عمره، فأخذ يتغامز وصبيَّة تجلس على مقربة منه، ففهمنا أنَّه بلغ طور الشباب، وها هو يبحث عن امرأة يحبُّها وتحبُّه…
فاتحَـنا برغبته في الزواج، فقلنا له بصوت واحد: يا بنـيَّ، انتظر حتَّى نترجَّل من الحافلة…
-لن أنتظر… إمَّا وَهيبة، وإمَّا لا أتزوَّج…
-وهيبة على الرأس والعين… نحن لا نعترض على الاسم، إنَّما نعترض على زواجك الآن، وفي الظروف التي نحن فيها…
-أخْتَطِفها إذن…
رضخنا للأمر الواقع، وطلبنا من الكاهن ذاته، وكان أصبح شيخاً طاعناً
في السنِّ أن يكلِّلهما، ففعل، وفرح جميع الركَّاب… لكنَّنا بعد برهة، سمعنا صوت انفجار قويٍّ.
قال عامل هنديٌّ بلغة عربيَّة مكسَّرة: يبدو أنَّ أحداً فخَّخ سيَّارة…
أطفأ السائق المذياع بعصبيَّة، وقال بصوت أجشَّ: لا تخافوا… انفجر إطار الحافلة… يجب أن نتأخَّر قليلاً بعد… لا تيئَسوا… الأيَّام طويلة… لا بدَّ أن تصلوا ذات يوم إلى بيروت!
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني