انطلق مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.
في ما يلي الورقة السادسة عشرة: الشاعر أحمد الحسيني- سيدني: تجربتي في المهجر ومع “أفكار اغترابية”.
كان ذلك في ربيع ألف وتسعمئة وسبعين، كنت وقتها أسامر الليل والأفكار تتراكم على رأسي، بين ماض تعيس ومستقبل مجهول لا يحلُ رموزه إلاّ الله.
وحيد فكرتي، ونزيل وحدتي في وطنٍ ترعاه الذئاب الجائعة، فقد شوّهُوا جماله، وبعثروا خيراته بين غريب حاسد ومقيم فاسد، فالعصابات لم تراعِ صورة لبنان ومعالمه الجميلة، من جباله الشاهقة، وأرزه الخالد، حيث ترتسم آيات الجمال، ولوحات كأنها من نسج الخيال صنعتها يد الخالق لتزيده رونقاً وبهاء…
أمام هذا الواقع الأليم، نهضت من تأملاتي وساعة تفكيري التي أرجحتني بين هموم الأمس، وغد مبهم لا أستطيع أن أقرأ عناوينه الخفيّة، وقررتُ أن أترك وطني لبنان الجميل إلى بلاد الغربة، وفي القلب غصّة، وفي العين حسرة…
كانت وجهة سفري إلى أستراليا، وفيها وجدت وطناً آخر، ومنزلاً يؤويني. وكنت في وطني أهتم بالشعر ونظمه، واتقنته على يد والدي الذي كان شاعراً ألمعيّاً، صاحب صولات وجولات في الشعر والثقافة العامة، الى جانب كونه سيداً وعالماً في الدين واللغة، وذا فضل بالمعارف المختلفة.
كانت دمعة الفراق تظهر على ملامح وجهي الحزين، بعد الوداع المؤلم للوطن والأهل والأقارب.
ركبت الطائرة تاركاً ورائي كمّاً هائلاً من الذكريات الجميلة، أيّام الصبا والمراهقة والشباب. وعندما حطت رحالنا في أستراليا، البلد المضياف الرائع، لم أستسلم لليأس ولا التعب والملل، فمنذ وصولي واظبت على نظم الشعر وكتبت كثيراً من القصائد، ونشرت دواوين، حتى جمعتني الأقدار بالشاعر والأديب الكبير جميل ميلاد الدويهي، وكان لي شرف اللقاء ومعرفتي عن كثب لكينونة هذا الشاعر العملاق، وهو ما جعلني أتنفس الصعداء، وأزدادُ إيماناً بأنني لست وحيداً في غربتي.
تواصلت مع الدويهي في الإنسانيّة، كصديق رفيع ومحترم، وفي الشعر والثقافة، وهو الشاعر والإعلامي والكاتب والمحرر اللامع في صحيقة “المستقبل” الأسترالية، وقبلها في عدة صحف، وفي الإذاعة العربية والتلفزيون العربي في سيدني.
وجميل ميلاد الدويهي مؤسس موقع “أفكار اغترابية” للأدب الراقي، ومجلّة “أفكار اغترابية – أدب وثقافة” الإلكترونية، وقد ذاع صيتهما في القارة الأسترالية والبلاد العربية والعالم، وكان جميل الدويهي يغدق على جلَّ الشعراء العرب واللبنانيين ويمدُ لهم يد المساعدة والعون، حتى غدا المنقذ للثقافة والأدب والشعر في بلاد الاغتراب، وامتدت يده المساعدة والكريمة إلى خارج أستراليا أيضاً.
والأدب المهجري لم يصعد إلى ذروة مجده، لكثرة الشعراء الذين يتسابقون لنيل الشهرة، عن طريق كتابة النثر فقط، وأغلبهم لا يعرفون فنون الشعر وقامته الرخامية، عدا قلة قليلة حافظت على النظم العمودي وتفاعيله، وقيمِه التعبيرية والجمالية، ولم تتهرب من المواجهة مع الواقع الأدبي الأصيل.
كانت “أفكار غترابية” ومؤسسها الدكتور والشاعر الكبير جميل ميلاد الدويهي يحتضنان الشعراء المخضرمين، ومن ثبتوا في مقامات الشعر بألوانه المختلفة. ولقد كنت واحداً ممّن ساروا في هذا المضمار، متنقّلاً بين الشعر العمودي، والشعر الحر، والزجل، والنثر… والدويهي نفسه يتربع في مملكة الشعر بجميع أنواعه، كيف لا، وهو باعث الأدب المهجري ومؤسس “أفكار أغترابية” التي تضم خيرة الشعراء والأدباء في المهاجر والوطن على حد سواء؟
وكان لي شرف الانضمام إلى مجموعة الأدباء الذين اختارهم الشاعر جميل الدويهي للسفر إلى لبنان في صيف 2019، تحت مظلة التوأمة بين مشروعه الرائد ونادي الشرق لحوار الحضارات. ولقد ضم الوفد سبعة عشر مبدعاً، أحيوا المناسبات في جميع الأراضي والمناطق اللبنانية. وشاركتُ في الوفد، فألقيت قصيدة عن لبنان، وكنت في عداد المكرمين في أكثر من مناسبة… وفي الاحتفال الكبير الذي أقامته بلدية سن الفيل، وخلال تكريم نخبة من الأدباء والمثقفين والأكاديميين، حصلت على جائزة الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي، تقديراً لمسيرتي الشعرية، وقد بلغتُ العقد الثامن من عمري، ولا أزال أكتب وأطمح إلى طباعة دواوين… ولا يزال جميل يشجّعني ويشدّ من أزري، ويبدي كل استعداد لمواكبة أعمالي.
وللدكتور جميل الدويهي نشاطات أدبية في أستراليا لا تتوقّف، وكنت معه في عداد الوفد الذي توجّه إلى العاصمة الفيدرالية – كانبرا، من ضمن نخبة من الشعراء الملهمين الذين أجادوا في أشعارهم، وقدّموا صورة الحياة الأدبيّة المشرقة في مدينة سيدني.
لا يسعني أخيراً إلاَّ أن أبارك أعمال الشاعر الكبير جميل الدويهي، وأثني على اهتمامه العظيم بالأدب المهجري، والنهضة الاغترابية التي نحن من أبنائها وأهلها الأوفياء.
رافع لواء الثقافة العربية في المغتربات، هو الجميل الدويهي، ويليق به أن يُذكر في الزمان، وسيُذكر مهما طالت الأيام.
***
*غداً 26-1-2022 ورقة الباحث جورج الكايد – سيدني.