مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية للأدب الراقي/ الورقة 14: الأديب سليمان يوسف ابراهيم- لبنان: “عناق الكلمة، عناقُ الرّوح”…

 

 

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في ما يلي  الورقة الرابعة عشرة: الأديب سليمان يوسف ابراهيم- لبنان: “عناق الكلمة، عناقُ الرّوح”…

 

بزغت شمس حكايتي مع الدّكتور جميل ميلاد الدويهي، يوم دُعيتُ من قِبل الأستاذ سُهيل مطر لحضور مهرجان مئوية الشّاعر سعيد عقل لثلاثة أيّامٍ متوالية في رحاب جامعة سيّدة اللويزة في ذوق مُصبح. وكانت الجلسة الأولى من المؤتمر حيث أدار النقاش، قدّم وحاور منتدي الجلسة الدّكتور  جميل الدويهي. أمضيتُ الوقت، مُنصتًا لهم ممسوكًا من أدب ولباقة المدير، مشغوفًا بما يقوله على رفعة ورقيّ كلمة.

في استراحة أولى، هبط نحو الحضور ذاك المتألق، اتجه نحوي مخاطبًا قصد تعارفٍٍ. تعارفنا… فأردف مخاطبني: لقد لفتتني متابعتكم، فبادرته على التّو: وأمسكتني إدارتكم. فكان أن أمسكني من يدي قائلًا: تعال، انتظرني لحظةً لأعود من مكتبي… وما كانت إلّا هنيهاتٍ حتى قدِم متأبطًا كتابًا، وخاطبني: “طائر الهامة” قصتي التي طبعتُ حديثًا، يشرّفني إهداؤكم نُسخةً منها” فأردفتُ: ” أتصوّر أن في الحكاية ثأرًا من أو ممًا لا يروقكم”… فقال على التّوّ: “أصبت في ما ذهبت إليه؛ وعلى البداهة!”  كلّ ذلك الفرح انتابني في التّاسع والعشرين من شهر الورود، في العام ألفين واثني عشر، وتكلّلت البهجة في اليوم الثّالث من المؤتمر، لحظة تعرّفي بجناح دكتور جميل الدّويهي المُذهّب، زوجه الصّديقة الأديبة مريم رعيدي الدويهي، التي كانت مصطحبته لحفل تنصيب تمثالٍ للشاعر سعيد عقل في باحة الجامعة في اليوم الختامي.

ترافقتُ وصديقي الجديد لثلاثة أيّامٍ متوالية نحو جبيل، حيث كان يسكن، كانت كفيلةً لشدّ أواصر صداقةٍ تبرعمت. وخلال أحاديثنا على درب رفقةٍ شيّقة، كنت في كلّ مرّةٍ أتمنى أن تطول، تعمّقت معرفتي بهذا المثقّف الغالي كلمةً وخُلقًا ومبادئ تعاطٍ.

صرنا، نتهاتف ونتحادث لفترةٍ من شهرٍ ونيّفٍ….

في يومٍ هاتفته به، ليردّ عليّ المُجيب في الطّرف الآخر: “سافر د. جميل إلى أُستراليا، وفي هذه المرّة، سفرته ستطول!”

آهٍ كم حزنتُ أسفًا يومها لافتقادي رفقة رجلٍ من معدنه، لعشق الكلمة وخدمتها قد خُلِق!

في ظهيرة يومٍ من غُرّة آبَ من العام نفسه (٢٠١٢)، أسمع زوجي تناديني: “على الهاتف شخصٌ يقول إنه د. جميل الدّويهي، يريد أن يحدّثكَ!”. لم يصدّق ذهني ما سمعته أذني، فطرتُ إلى السّماعة، ليتناهى إلى سمعي صوت ذاك العزيز الكبير، الذي ظننتُ أنّني لن أراه أو أسمعه ثانيةً، لبُعد الإتّصال وتعذر معرفتي بالوسيلة لذلك… غير أنّ إرادة الوصال _ وصال الفكر والرّوح_ تسهّل سبلَ القلوب إلى بعضها… وضعني في أسباب مغادرته الملزمة على فجأة، اطمأن وطمأن… أعلمني أنه يشغل منصب مدير تحرير لجريدة “المستقبل” الأستراليّة وطلب إليّ أن أرسل له بمقالاتي، لينشرها على أجنحة الصّفخة الثّقافية فيها. هكذا مرّت السنوات بيننا بين إرسالٍ ونشرٍ ومُهاتفةٍ… إلى ان أعلمني يومًا أنّه أسّس صفحةً أدبيّةً ثقافيّةً، لنشر الأدب المهجري الذي يتناوبه مع الأقلام في مغتربه؛ ويريد لهذا الموقع الإلكتروني الجديد أن ينمو ويضطرد بفضل تعاونه معهم، وأنا من بينهم، بخاصّةٍ في وطنه الأم لبنان الذي حزمه مع أمتعة سفره، وراح يُنشده حنينًا إليه لا ينقطع بشعره ونثره وفيض تذكاراته وأقاصيصه…

جرت بنا الأيّام، ونحن على تواصلٍ دائم؛ يغنيه فكرنا بما يغدق علينا من نتاج القلم… و”أفكار اغترابيّة” ومشروع الدّكتور جميل ميلاد الدّويهي للأدب الرّاقي في دفق نموّ مستمر… حتّى أنّه أعلمني في ذات صبيحةٍ، أنّ بعض الأصدقاء اقترحوا إنشاء جائزةٍ أدبيّةٍ باسم المؤسّسة واسمه، يقدّمها عربون تقديرٍ للأقلام الأدبيّة المُسهمة في نهضة الفكر العربي من أجل الوطن لينان وسموّ إنسانه. وأعلمني بأسماء بوتقةٍ من الأقلام التي سيكرّم أصحابها في مهرجانه الأدبي الأول، الذي سيقيمه في سِدني شباط ٢٠١٦، وكانت الصّديقة الأديبة كلود ناصيف حرب أولى المكرّمات من “أفكار اغترابيّة” في الوطن الثّاني أستراليا، إلى جنب قامات أدبيّة مُبدعة من اللبنانيين المقيمين في مهاجرهم ويشاركون في انشطة  موقع “أفكار اغترابيّة” وإغنائه بنصوصهم وقصائدهم. فكانت “سيّدة الحنين” كلود ناصيف حرب، من طليعة المؤسّسين وعميدة المكرّمين من قِبل مشروع د. جميل الدّويهي للأدب الراقي، من أعضاء المؤسّسة.

وفي العام ٢٠١٧، يهاتفني صديقي الدكتور، مستطلعًا رأيي إن كنتُ أقبل ترشيحاً لأن أكون أول قلمٍ عربيٍّ لبنانيّ يُكرّمني من ضمن مكرّمين في مهرجانه الثّاني لمشروعه الرّاقي. بالحقيقة، بدايةً، استغربتُ ان يطرح عليّ هذا السؤال! وكيف لا؟! كيف لي أن أتقاعس عن قبول هذه المكرُمة القيّمة التي يخصّني بها المشروع من بين الأقلام اللبنانيّة؟

فكان نهايةً أن توافقنا على أن يتسلّم الجائزة عني الصّديق الإعلامي بادرو الحجه، ابن بلدة مشمش المقيم في أستراليا، ومتى قدم لبنان استلمها منه باسم الدّكتور. تم الرّأي على ذلك، وحصل المهرجان الثّاني في موعده المحدّد واستلم الصًديق الأمانة من الأديبة كلود ناصيف حرب، وفي ٢٢ حزيران من العام ٢٠١٨، استلمت منه الجائزة وقلّدني ميداليّة “أفكار إغترابيّة ومشروع د. جميل ميلاد الدويهي للأدب الرّاقي” في مهرجان توقيع كتابي السّادس “معاصر الحبر الجزء الثّاني” الذي أقيم على مسرح الأباتي عمانوئيل خوري في أنطش جبيل، بدعوةٍ من “لقاء” و “مجلس الفكر في لبنان”، وكانت للكبير د. جميل ميلاد الدويهي كلمة لي، ببراءة التّكريم الممنوح ومباركة بالإصدار الجديد المحتفى به.

جرت الأيام، وطوينا سنتين من العمر، وكانت الجائحة الكونيّة قد وضعت بأوزارها على صدر كرةٍ أرضيّة بأسرها، مع ما رافق وقوف قلب عالمٍ جراء وباءٍ وجوعٍ وبطالة، أجدني مجدّدًا في مطلع العام ألفين وعشرين، إزاء الصّديق د. جميل الدويهي، مخاطبني على الهاتف من المقلب الآخر من الكرة الأرضيّة يقول : ” أستاذ سليمان، وأنا أجمع ما قيل وكُتب في أفكار إِغترابية ونشاطها الثّقافي، تبيّن لي أن حصادكم الفكري في هذا بات وفيرًا، فقرّرت مع الهيئة الإداريّة أن نطبعها لكَ كتابًا باسمكَ، إن وافقتَ على ذلك!” ولم يكن الجميل بقربي ليشهد كم طار قلبي فرحًا وغبطةً للخبر، قبل أن أجيبه بموافقتي على البداهة وبٍلا تردّدٍ بالإيجاب طبعًا! وكان لي أن دخلتُ الأدب العالمي شهرةً_ على ما قاله لي أحد معارفي المتنوّرين_ بفضل إرادته الطٍيبة المُحبّة، عن طريق الكتاب “من سليمان يوسف إِبراهيم إلى جميل الدّويهي وأفكار إغترابية،… وتقصر المسافة” أول كتبي في أُستراليا، الذي قدّم له د. عماد يونس فغالي؛ وقد رأى الكتاب النّور في آذار من العام ألفين وعشرين، وصدف من بعدها، أن وضع د. جميل بتصرّف النّقاد، في نشاطٍ ثقافيّ  آخر للمؤسّسة، قراءاتٍ نقديّةٍ لبعص نصوصٍ من نتاجه الثّر. فشرعت بنشر قراءتي، بتعليقاتٍ على النّصوص تباعًا، وما كان من الدّكتور الغالي إلّا أن اتصل بي ثانيةً، مُعلمني أنه بصدد تحضير نصوص مُطالعاتي النّقدية، استعدادًا لإصدارها في كتابٍ ثانٍ، طالبًا مني أن أختار له عنوانًا، فقلت: “سراج العشايا” وكان لي ما قرّرت، واحتفل قلبي من جديدٍ، قبل المنصّات، بصدور كتابي الثّاني في أيلول من العام المذكور، من ضمن منشورات “أفكار إغترابيّة” – سِدني.

فبهمّة وسهر سيّد أفكار إغترابيّة وقلبها النّابض جهدًا، سهرًا ومُتابعةً الدكتور جميل ميلاد الدّويهي الذي أطلقت عليه لقب “زعيم النّهضة الإغترابيّة الثّانية” منذ العام ألفين وستة عشر، واليوم أُصرّ مؤكِّدا على ذلك.

فهذا العزيز لم ولن يثنيه عن تقدّم مضطردٍ وعطاءٍ دائم في دنيا الأدب والإبداع، رغم كلّ ما مرّ ولا يزال يمرّ بنا، من مصائبَ مُعيقةٍ كبّلت العالم…

وما المؤتمر الذي نحيا فصوله لنهضة أدب مهجريٍّ ثانية اليوم، سوى خير دليل على دينامية هذا الرّجل.

وفي العام ألفين وثمانية عشر، طلب إليّ د. جميل، أن أرشّح لجائزته مبدعين، أراهم مستحقّين التّكريم في وطننا الأم، فكان لي شرف ترشيح الدكتور عماد يونس فغالي، والدكتور فوزي عساكر، والشّاعرة جوليات أنطونيوس؛ كما ولفتتُ لاسم الغالي الأستاذ جورج طرابلسي الذي كان قد أبلغه هو بشأن االترشيح لتكريمه من قبل.

كما وفي العام عشرين بعد الألف، كان لي شرف أن أرشّح إلى الجائزة اسمًا أختاره: فكان أن رشّحت للجائزة الصّديق الغالي الدّكتور جوزاف ياغي الجميّل. وقد صدر لكلٍّ من الدكتورين فغالي والجميّل كتبًا إلى جانب كتبي في العام ألفين وواحد وعشرين.

ولأن الدكتور جميل لم ينسَ للحظة أرض الأجداد، وقد تأبّط الوطن ذخيرة قلبٍٍ توقد في صدره مجامر الحنين بلا هوادةٍ، عاد بزيارةٍ لمدّة شهر على رأس وفد من شعراء وأدباء “أَفكار اغترابية” إلى الوطن الغالي لبنان ما بين ١٨ آب و 4 أيلول من العام ألفين وتسعة عشر، قام خلالها بأنشطةٍ ولقاءاتٍ ثقافيّة واسعة، كان بكرها، حفلًا استقباليًا للوفد من قبل “لقاء” على مسرح المكتبة الوطنيّة في بيروت العاصمة، بدعوةٍ من رئيسه الدّكتور عماد بونس فغالي والأعضاء، ولَكَم أغبطني أَنه من أجود ثمار الزّيارة وأينعها أن نشأت بين “لقاء.” و “أفكار إِغترابيّة” توأمةٌ ثقافيّة فكريّة بوحدةٍ عُضويّةٍ بين الرئيسين وأعضاء المؤسّستين.

ولّما أسّست سيدة الحنين، الصّديقة الشّاعرة والإعلاميّة كلود ناصيف حرب، موقعها الخاص “بستان الإبداع” كنتُ من أوائل الّذين ضمتهم إلى ناديها الأدبي مشكورةً على تقديرها وقلبها المُحبّ وحضورها اللافت، الذي يبث الأماكن حيثما حلّت من ضَوع عبيرها فكرًا وخُلًقًا بقشيب كلمةٍ أدبًا، فكرًا وصلاةً!

حسبي أنّني صديق أهل الكلمة و حبيبكم أيّها السادة الدّاعين إلى هذا المؤتمر النّوعي المُميز؛  وقد ضمّ بحركةٍ كونيّة، إلى قلب الأدب المهجري النّابض، الدكتور جميل ميلاد الدّويهي، كلّ من “لقاء” بشخص رئيسه الدكتور الصّديق عماد يونس فغالي وسيّدة الحنين وردة “بستان الإبداع” ورئيسته الشّاعرة كلود ناصيف حرب؛ متمنّيًا دوام التّوفيق والألق لكم، أنتم السّاعين إلى نُضرة العربيّة وسموّ آدابها مهجريًّا ووطنيًّا، وما شاءت لها المفاوز على أيديكم وبكدّكم ودوام السّهر، أن تكون بين اللّغات الحيّة.

لأن الدكتور جميل ميلاد الدّويهي، شغوفٌ بالرّمز يمتطيه صهوةً لإيصال فكره ولواعج قلبه أدبًا صافيًا مشعًّا إلى قرائه في معظم ما كتب، أجدني أسمعه مردّدًا وقد تقمّص حضوره الأدبيّ جسرًا وهو يقول لمدعويه وسامعيه وقارئيه:

“كفاني ان لي أطفالَ أَترابي

ولي في حبِّهم خمرٌ وزادْ

من حصادِ الحقلِ عندي

وكفاني أن لي عيدَ الحصادْ

أن لي عيدًا وعيدْ

كلّما ضوأَ في القريةِ مِصباحٌ جديدْ.

***

يعبرون الجسرَ في الصُّبح خفافًا

أضلُعي امتدت لهم جسرا وطيدْ

من كُهوف الشّرق، من مُستنقعِ الشّرق

إلى الشّرق الجديدْ

أضلُعي امتدَّتْ لهم جسرًا وطيدْ “…

معكم، يا ثالوث المؤتمر بات ما بين شرقٍٍ وغرب، أضلعًا تمتدّ جسورًا إلى أقاصٍٍ بعيدةٍ، لتجمع قلوب وعقول مفكّرين وساسة حقٍّ وخيرٍ وجمالٍ إلى مأدبة ابداعٍ من غير انقضاء مواعيد…

دمتم بعزّ نشاطٍ وحضور، إلى اللّقاء في ميادين أدبيّة وفكريّة جديدة، نرودها معًا من شعاب الإبداع.

 عنّايا؛ في ١٩_ ١_ ٢٠٢١

 

***

*غداً ورقة د. سمر جورج ديوب – سوريا

اترك رد