انطلق مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.
في ما يلي الورقة الثالثة عشرة: الشاعرة فرات إسبر- سورية مقيمة في نيوزيلاندا: “أنهار العطش”.
السفرُ لم يكن من الأحلام ، ولا زوادة الفقراء . ولأن الأرضَ منبسطة ومنخفضة فهي ليست عادلة.
المطر غزيز . الرعودُ تُرعب . العواصفُ تُرهب الروحَ . أمواج البحر ، ترتفعُ حتى تصلَ إلى آخرِ درجة ٍمن الحلم.
أن تعيشَ المرأةُ في مناخٍ غير مناخها ، كمن يأتي بالجِمال من الصحراء ليضعها في حديقة ٍمن الزهور ، أو كمن يأتي بماعزِ الجبال ِويضعها على شاطئ البحر .
ما حدثَ كان اختلافا غيَّر الجغرافيا ،ةحتى أشعةَ الشمس لم تجد صدعاً للدخول في أقصى درجات الشمس إشراقا .
الرومانسية مذبحة ، والعاطفة فخٌ لصيد البهجات . فمن خرج في هذه الطرق، لن يسلكَ بها إلى منفذٍ أو إلى طريق منقذٍ .وبعد هذا ، من الذي شاء ، أمشيئته أم مشيئتها؟
امرأةٌ في غيبوبة ، استفاقت منها مرة على وجه قمرٍ منير أضاء َالكون ، والفيقة الثانية كانت على عطرِ زهرة ٍ . من يومها لم تدرك العالم َ إلا بقمرٍ وزهرة .
مرتِ الحياةُ بالخيارات التي توقع في المهالكِ. أن نعيش َيعني أن ندخلَ بئر النسيان.
اصرخي أيتها الشجرة العارية، اصرخي الآسن ، لا أحد يراك في الخريف ، لا أحد يسمعك .
الوصف صعبٌ، التعبير عنه أصعب.
مضت بحياتها إلى مشرحة، وعلى جثث الأيام مشت.
ما هو الحب؟ كانت تسأل نفسها ، وتجيب: يعني أن تموت غبياً. وماذا عن الزهرة والقمر في هذا الليل الحالك؟،كانا يضيئان الغيب.!
كيف لنا أن نقيسَ الحياة بمقاييس الحكمة؟
الحكمة ، أن تنام مقتنعاً في رعبٍ وخوفٍ مثل قنبلة ترتعد وحيدةً ، لا تريد أن تَقتلَ على الرغم من شراستها في بلاد ٍ ذكروها في المديح والهجاء ، ذكروها في الحروب والغزوات ، ذكروها في التاريخ والآثار ولكنها كانت عجفاء لم تُرضعْ أولادها ورمتهم في فطامِ أبدي .
بين إدراك ومستدرك ، وقعتُ وغمرني ماءٌ غزيٌر حتى اختنقتُ ، وتجاوزت موتي حتى انتهيت ، وقمتُ.
أيها الحلم مزقْ ثوبك . .اخلعْ قلبك . إنني لا أجيد غير ذمك . وهكذا بدأت الرحلة:
مفوضية اللاجيئن تتصل وتعتذر عن أمريكا التي رفضت قبولنا كلاجئين إليها، وأيضا كندا والدنمارك والسويد . يا إلهي لماذا تضيق ُ أراضيك بنا ، نحن الغرباء الذين لا نملك وطناً ولا هوية؟
أتذكر أمُ جبران خليل جبران، تلك البطلة المحاربة في رحلةٍ قطعتها عبر البحار، وأعزي نفسي بها وأقول: لا بدَّ أن يأتي يوم ويأتي معه الحلم الذي نحلمُ به .
بعد فترة طويلة قاربت ِالأشهر قطعنا الأمل في سفر ٍنحلمُ به لترميم حياتنا في عالم وأوطانٍ لم تمحنا سوى الهشاشة والغياب والنفي، ومع ذلك نبكي عليها بحرقة الحنين إليها .
أيها الوطن ما أوسعك وما أضيقك .!
نسينا الموضوع وبقينا نتابعُ حياتنا ، التي يكبر فيها الأولاد ، بلا هويةٍ ولا جواز ِسفر ٍ، إلى أن جاءنا الغيثُ بهاتفٍ من المفوضية العامة للاجيئن، تقول لنا فيه : “مبروك لقد تمّ قبولكم للسفر إلى نيوزلندا “. ولكن يا الله أول مرة أسمع بها . كيف هي؟ أين تقع،؟ ما لغتها؟
نظرتُ إلى أطلسِ العالم ، كان واسعاً وكبيراً ، وكانت نيوزلندا في أسفله كسمكة صغيرة وُلدتْ لتّوها وتخشى أن تبتلعها الأسماك الكبيرة التي تحيط بها المياه على مداها وجانبيها، وأن تهنا في الطريق إليها لا شيء سوى الغر ق يا الله!
حزمتُ الحقائب، وتركت خلفي الماضي بما فيه حتى الملابس ، لم أحمل منها إلا ما نرتديه وملبسا ًواحداً للطريق لأن المسافة كما قالوا لنا بعيدة بعيدة وقد لا نصل . كان علينا في ذلك الزمن أن نقطعَ ثلاثين ساعة من الطيران إليها .
وإلى مطار دمشق الدولي توجهنا ، ودعونا الله أن لا يوقفنا طارئٌ أو حاجزٌ .
هبطنا في مطار البحرين ، كان هبوطنا الأول وتجربتنا الأولى في الطيران. كنت أمسك بأولادي، كل واحدٍ منهم أشدُّ على يده بقوة خشية أن يضيعوا مني في زحمة المطارات، وقد كنت لاول مرة أسافر بعيداً ، إلا في خيالي والحلم الذي تحقق.
في مطار البحرين وعلى الدرج الكهربائي المتحرك الذي أصعد إليه أول مرة حملت أبنتي، وعلقتُ يدي بجوانبه خشية السقوط، ولكن كعب حذائي علق في الدرجات المتحركة، ووقعت أرضاً ، مما اضطرني إلى خلعة وبقيت حافيةً.
وهكذا اقلعت الطائرة في رحلة من خيال الإنسان كنّا نقرأ عنها في الخيال العلمي بالسفر نحو الفضاء أو المجهول، حقا ً كان هذا السفرُ سفراً في المجهول ِ الغامضِ الأعماق .
كنت سعيدة ، وقلبي يحدثني عن الأحلام التي صارت حقيقة، عن المجاهيل البعيدة، وأتذكرُ أم جبران خليل جبران “كاملة رحمة” وأقول : هي كانت في زمن الأسفار في البحار ، وأنا في زمن الأسفار بالطيران ، لا بد أن هناك فرقا ً… واستمدُ القوة منها والشجاعة ، فكان بيني وبينها صلة قرابة روحية منحتني أشد طاقاتها قوةً وعمقا ً كي أستعيدَ أنفاسي في هذه الرحلة المجهولة.
وبدأتِ الحياة بترتيبٍ جديدٍ واشارات جديدة. كان علي ّ أن أغسل عذابات الماضي بحلاوة المستقبل وجمالية المكان والبشر وتحقيق ما عجزنا عنه في منفى الوطن الأول .
كاميليا رحمة عزائي في اختلاف الزمن والثقافات . وبدأنا في رحلة اللغة وغرابتها ، فالفرنسية التي درستها لم تنفعني في بلاد الغيوم البيضاء التي وصلها جايمس كوك قبلي.
نيوزلندا بلادٌ واسعةٌ وأرضٌ خضراءُ وسماءٌ بيضاءُ ومحيطات تسّورها وكأنها امرأةٌ على مستوى رفيع من الجمال والزهو ، تحرسها الحدائق والأشجار، وما شجرة “بوهوتوكاوا ” إلا شجرة الأرواح، أرواحُ من نحب ، نعلقهم فيها كما يفعل الماورية سكان نيوزلندا الأصليون.
وبدأتُ بتعلم اللغة الانكليزية ، كنت كالببغاء لمدى شهور، أردّد كلماتٍ لا معنى لها وأعيدها وأفكك حروفها وألفظها خطأً، وإلى اليوم ما زلت لا أجيدها كما أولادي.. وأتأتئ.
كنت دائما أفكر بجبران ومي زيادة والشعلة الزرقاء ، التي كانت بينهما وحملاها إلى أجيال وأجيال، وما زال وهجها يتدفق ُ في قلوب محبي الأدب.
وأسألُ دائماً وعبر هذا المحيط هل من الممكن أن يكون ما بين البحر الابيض المتوسط والمحيط الهادي شعلة زرقاء أخرى تنير بوهجها على عالم الأدب ومحبيه ؟
علاقة جبران خليل جبران ومي زيادة والرسائل المتبادلة بينهما تعتبر مشروعا ً ثقافيا وأدبياً بحد ذاته ، ما زالت إلى اليوم باقية كفاعل ومؤثرٍ أدبي في العلاقات الإنسانية والفكرية ، ولكن مع الأسف لم يتّوج هذا الحب باللقاء ، وإنّما انتهى إلى مصيرٍ مؤلم ٍ وحزين ، حيث أ ُتهمتْ مي زيادة بالجنون ودخلت المصح ، ومات جبران بمرض السل إذ لم يتم اللقاء أبداً .
يقول الكاتب الكبير جميل الدويهي : “إلى اليوم لم يوجد من يؤسس لمرحلة ثانية وجديدة لما بعد جبران خليل وخليل نعيمة والرابط القلمية” .
نأمل أن نجد امتدادا لهذه الرابطة عبر البعد الآخر الجغرافي لا الامريكي فقط إنما الاسترالي النيوزليندي، وإلى ما وراء المحيطات شرقاً وغرباً ، ليتجدد هذا الإبداع المهجري برايةٍ جديدة وأقلام جديدة تحت سماء أدب اغترابي جديد له سماتٌ مبتكرة، و يحمل بصمة الماضي القديم الأصيل .
نحن البشر نتشكلُ من دمعة وابتسامة ، من حنين وجنون وأشواق ، كتلة الروح فينا هي هذا الشعور الإنساني بكل ما نحمله من صدق ومحبة.
ما أودُّ التركيز عليه ولجانب ٍمهمٍ في قناعتي، أن أدباء المهجر لهم فضلٌ كبير في إحياء روح الآداب العربية واللغة العربية وإيصالها إلى بقاع الأرض ، ومنهم كما ذكرت جبران وميخائيل نعيمة وغيرهما من الذين اسسوا الرابطة القلمية .
تعرفت على كتبِ جبران خليل جبران وتفتحت عيناي على ما كتبه في “دمعة وابتسامة” وعلى روائع رسائله مع مي زيادة ” الشعلة الزرقاء ” وهو ما حاولت أن تقلده غادة السمان في رسائلها المتبادلة مع غسان كنفاني ، والتي ادعتْ بأنه هو من كان يرسل إليها رسائل الحب.
ولكن مهما كتب من رسائل أديبة عبر تاريخ الأدب، لم ولن يصل إلى قيمة وأهمية الرسائل المتبادلة بين جبران ومي ، كونها كانت تحمل هموم الشرق والغرب عبر هذا التواصل الروحي بينهما ، حيث كانت في صالونها الأدبي تفتح الحوارات الثقافية ما بين الشرق والغرب ، بكل ما يرسله جبران في رسائله ، وكان من أهم رواد صالونها الأدبي عباس محمود العقاد وطه حسين وغيرهما من كبار كتاب مصر في تلك المرحلة.
أعود إلى كتاب “النبي”، كتاب جبران خليل جبران الذي وصلني هدية اعتز بها من الأستاذ الجليل عدنان حسين عوني العراقي الذي يعيش في نيوزلندا منذ سنوات طويلة. تشرفت بمعرفتهِ ضمن اللقاءات الأدبية والفكرية التي تقوم بها الجالية العراقية العربية في نيوزلندا.
قال لي الاستاذ عدنان عوني ، رحمه الله :
عندما أقرأ ” لفرات إسبر” أتذكر جبران خليل جبران” ، ابتسمتُ وشكرتهُ وقلت له: هذا شرف لي أن تذكرني مع جبران خليل جبران .
مرتِ السنوات وتقريباً ما يزيد على ثلاث سنوات ، لأحظى بمكاملة تلفونية، يقول لي فيها الأستاذ عدنان عوني رحمه الله إنه قد تلقى هدية ثمينة من ابنته سهى عوني التي كانت تزور لبنان، وقبل أن أعرف ما نوع الهدية طلب مني ان أوافق على قبولها ، لأنه لم ير احداً يستحقها مثلي ، فوافقت دون أن أعلم نوع الهدية ، كوني أحمل له كل التقدير والأحترام ، وكانت المفأجاة أنه أهداني كتاب “النبي” لجبران .
وها هو الاستاذ جميل الدويهي يعيد لنا أمجاد الكلمة بدعوته لي للكتابة عبر مشروعه الأدبي الراقي، ليجمعنا في شوق الوطن والحنين والمنافى وجزرها، ضمن مشروع أدبي راقٍ ٍ أعتزُ بالمشاركة معه، بهذه الورقة الأدبية التي تحمل في طياتها رحلة السفر الطويل بين الأرواح والأجساد… بين المنافي والأوطان .
وما لنا من الوطن إلا الذكرى، وما لنا من المنافي إلا المستقبل لنختم بالشعر الذي هو حال العرب ، فما بين الأطلال والأطلال يموت شاعر أو يُنفى شاعر .
من وحشتي أرصعُ حياتي بالأحجار الكريمة
وأصرخ لجبران خليل جبران :
أيها النبي ،
أنهار من العطش ما بين قصابين* وبشري*
وكانت مي صديقة المنفى والدروب
فيا أيها الوجد اختصرني بالمعاني لا بالحروف
كل ليلةٍ أنام على ظلمتي وأعدُّ الجروح .
***
*بشري :مسقط رأس الشاعر جبران خليل جبران “لبنان”
*قصابين مسقط رأس الشاعرة فرات إسبر “سورية “
***
*غداً ورقة الأديب سليمان يوسف ابراهيم *