المستشرق ريجيس بلاشير… عاشق اللغة العربية

د. حورية الخمليشي

 

في نطاق الاحتفاء باللغة العربيّة، غالباً ما تغفل الدراسات العربيّة أعمال بعض المستشرقين الذين عشقوا اللغة العربيّة وأسدَوا للمكتبة العربيّة خدمة جليلة كريجيس بلاشير الذي يعدّ من أكبر مترجمي النص العربي القديم. فهو مدرسة أدبيّة متميّزة في دراسة وترجمة التراث العربي، والتعريف بشخصياته المبدعة، بالإضافة إلى ترجمة القرآن وترجمته لديوان المتنبي،  واهتمامه بقضايا المعجميّة العربيّة، ووضعه للعديد من المعاجم والموسوعات.

ولعلّ إهمال أعمال بلاشير وإغفالها في الدراسات العربيّة ناتجٌ عن موقف المثقفين العرب من الاستشراق. فهناك فرق بين الاستشراق العلمي والاستشراق الاستعماري.  وهذا ما أشرت إليه في مقدمة كتابي “ترجمة النص العربي القديم وتأويله عند ريجيس بلاشير”. وكان يرى أن الشعر العربي “جنّة خفيّة”. شكراً لمحمد مرشد محمد الحاج الكميم الذي كان قد قدّم ملخصاً للكتاب.

الجنـة الخفـية

كانت الدراسات العربية عن الاستشراق حلماً عسير المنال إلى أن أشرع أبوابها في سبعينيات القرن العشرين المفكر العربي إدوارد سعيد، الذي كشف لنا عن النزعات الاستعمارية المضمرة في بطون مؤلفاتهم، فصارت آراؤه تعمم على كل الدراسات الاستشراقية، بريئة كانت أو غير بريئة. ولكن النظرة العلمية الفاحصة والدقيقة، التي تتوخى الإنصاف وعدم الانسياق وراء الأحكام المسبقة، هي التي ساقت حورية الخمليشي إلى تخصيص أطروحة الدكتوراه لدراسة ترجمة النصوص العربية القديمة إلى اللغة الفرنسية من خلال مؤلفات ريجيس بلاشير، الذي يعد أهم أعلام الاستشراق الفرنسيين، وهذه الأطروحة، التي أشرف عليها إدريس بلمليح وناقشها كل من أحمد بو حسن و محمد السيدي و عبد الفتاح الحجمري، طبع الجزء الأهم منها في كتاب حمل عنوان: ترجمة النص العربي القديم وتأويله عند ريجيس بلاشير سنة 2010م عن دور عربية ثلاث هي: الدار العربية للعلوم ودار الأمان ومنشورات الاختلاف، جاء في مائتين وخمس وخمسين صفحة من القطع المتوسط توزعت عليها أقسامه الأربعة بفصولها المتباينة، هذا بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة والملاحق والفهارس.

لقد تطرقت المؤلفة في مقدمة كتابها إلى الترجمة الأدبية وأنواعها وكيفياتها وصعوباتها وحلولها، وسردت -بعد ذلك- مجموعة أسئلة مرتبطة بالترجمة وبالمترجم وباللغات المترجم منها أو إليها، وأسقطت كل ذلك على ترجمات بلاشير التي وضعت عليها علامات استفهام كبيرة تندرج ضمن أسئلة الاستشراق. وحين أتت لتفرق بين ثلاثة أنواع من الاستشراق جعلت هم إدوارد سعيد منصباً على نقد الاستشراق السياسي وهم غيره على الاستشراق الديني؛ ولكن الاستشراق العلمي، الذي يعد بلاشير أحد أعمدته، بقي بعيداً عن أيدي الدارسين العرب ولم يلق حظه من العناية والدرس.

وحين أتت إلى دراسة ريجيس بلاشير لم تغفل الجانب التنظيري الذي خصصت له القسم الأول، الذي تناولت في الفصل الأول منه مفهوم الاستشراق ومفهوم المستشرقين، وعرضت إلى اختلاف الباحثين حول مفهوميهما، وخصت بالذكر المفكر العربي إدوارد سعيد، الذي يعد في طليعة نقاد الاستشراق؛ ولعل ريادته هذه هي التي كرست لدى الدارسين العرب والمسلمين ثقافة استعداء الغرب، هذا إذا لم نقل كل ما هو غربي؛ الأمر الذي دفع الآخر الغربي إلى استبدال مصطلح الاستشراق بمصطلح الدراسات الشرق أوسطية، ومصطلح المستشرق بمصطلح خبير الشرق الأوسط.

ولكي تقدم نماذج استشراقية مؤدلجة تطرقت إلى غوستاف فون غرنباوم الذي تعرض إلى انتقادات كبيرة من جانب مفكرين عرب؛ لعل أبرزهم إدوارد سعيد وعبد الله العروي، كما ذكرت أن سعيد وأنور الجندي ويوهان فوك وغيرهم تعرضوا لنقد مجموعة من المستشرقين أمثال ماسنيون وبوهل ومرشال وفينيسنيك وساسي ورينان ومرجليوث وجب وروبرتوس، وتذكر أن الأخير تعمد أن يخطئ في ترجمته لكثير من نصوص القرآن الكريم. أما رودنسون فتقول إنه تعرض للقرآن الكريم ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالنقد والتجريح ونفي القدسية عنهما. غير أن الأخطاء المقصودة عند ترجمة نصوص القرآن أو ما يتعلق به لم تكن –كما تقول- ديدن كل المستشرقين؛ ولكن هناك من ترجم وأخطأ أخطاء غير مقصودة ناتجة عن قصور فهم أو عن إغراق في التأويل كجاك بيرك وريجيس بلاشير وغيرهما. ولعل اختلاف مقصديات ترجمات المستشرقين هي التي نوعت في مواقف النقاد العرب تجاه آرائهم التي أيدها فريق منهم كطه حسين وزكي مبارك وغيرهما، وعارضها آخرون كرفاعة رافع الطهطاوي وقاسم أمين ومحمد عبده والأفغاني وأرسلان والعقيقي والعقاد والرافعي ومحمد كرد علي والجندي وهيكل وفريد وجدي وحسين الهراوي، وذكرت أن هذا الأخير خاض معركة نقدية ضارية ضد زكي مبارك الرائي أن نفع المستشرقين أكبر من ضررهم.

أما الفصل الثاني من هذا القسم فقد خصصته المؤلفة للاستشراق الفرنسي، الذي يعد مدرسة واحدة من مدارس استشراقية أوروبية عديدة نشطت إبان ضعف الإمبراطورية العثمانية من أجل اقتسام تركتها، فركزت هذه المدارس على لغات الشرق المختلفة، والعربية منها بالذات، ونقبت في آثارهم وبحثت في تاريخهم وثقافاتهم، فكانت هذه المدارس، بالفعل، كتائب استطلاع، وإن لم تكن عسكرية. ولعل حرص السلطات الفرنسية على جلب كنوز الشرق المعرفية إليها، هو الذي دفع إلى إنشاء المعاهد والمدارس والجامعات المختصة بتدريس اللغات الشرقية؛ وعليه فقد كان لها الفضل في ترجمة الأدب العربي والقرآن الكريم إلى لغتها، كما كان لها الفضل في تكوين المترجمين الذين اهتموا بدراسة التراث العربي، ومن بين هؤلاء ريجيس بلاشير الذي ألف مع كودوفروي وديممبينيس كتاباً لتعليم اللغة العربية لأبناء جلدتهم سموه بـنحو العربية الفصحى وقسموه إلى قسمين، الأول منهما خصصوه للنحو والآخر للصرف، كما ألف مع المستشرقة ماري تشيكالدي كتاباً تطبيقياً على قواعد العربية سمياه تمارين العربية الفصحى، وقام مع سوفاجي بوضع مبادئ عامة للخط العربي، وألف بمفرده كتاب تاريخ الأدب العربي، الذي توقف فيه عند الحقبة الأموية بعد أن درس مجموعة من القضايا المتعلقة بالأدب، كقضية الشعر المنحول وقضية الأغراض الشعرية اللتين عرضت لهما المؤلفة بشيء من التفصيل وقارنت بين ما كتبه في هذا الكتاب وبين ما كتبه غيره من المستشرقين، الذين تعرضوا لتاريخ الأدب العربي.

وفي القسم الثاني، الذي خصصته للممارسة النظرية عند بلاشير، تناولت في الفصل الأول منه ترجمته للقرآن، فحددت مفهوم الترجمة عنده وعرضت لتفريقه بينها وبين النقل، كما أنها نقلت عنه تصوره للترجمة، التي نظر إليها على أنها عمليات فهم وتفسير وتأويل تتم عن طريق حدس المترجم، الذي يجب أن يكون ضليعاً في اللغتين، ثم عرضت لمفهوم الترجمة وتعريفها عند بعض الأدباء والنقاد، وعرجت –بعد ذلك- على رأي بلاشير فيها، مقارنة بينه وبين رأي غيره من المستشرقين، وتحدثت عن خيانة الترجمة وذكرت بعض الكيفيات التي تخلص بها بلاشير من هذه الحقيقة من خلال وضعه لقواعد عامة يستطيع الفرد من خلالها ترجمة النص العربي إلى الفرنسية، وذلك في كتاب له صدر عام 1953م.

وقبل أن تتعرض لترجمة بلاشير للقرآن الكريم، التي ظهرت سنة 1948-1951م في ثلاثة مجلدات، قامت برصد كل الترجمات التي نقلته إلى مختلف اللغات الأوروبية، وأشارت إلى بعض أخطائها وإلى بعض القواعد العامة الضابطة لترجمته، وبعد ذلك أتت على قواعد ترجمة القرآن عند بلاشير، الذي أدرك صعوبة ترجمة مثل هذا النص المعجز؛ اللهم إلا إذا كان بالمعنى أو بتقريبه عن طريق الشرح والتفسير والتأويل، كما أنها اعترضت على قوله عنه بأنه نص أدبي واعترضت -أيضاً- على بعض أخطائه في الترجمة وعلى بعض ترجيحاته لآراء المستشرقين، ورغم اعتراضاتها على ذلك فإنها قدمت للقارئ بعض رؤاه عن إيقاع فواصل الآيات وعن السور المكية والمدنية واختلافهما في الأسلوب والمضمون ورؤى أخرى تعرض فيها لبعض مفسري القرآن كالطبري والرازي وغيرهما، وبعد ذلك قدمت منهجيته في ترجمة معاني القرآن والصعوبات التي واجهها عند ترجمته لها والمعالجات التي تبناها لحل هذه المعضلة، وختمت ببعض ما وقع فيه من إشكال وخلط رغم كل التدابير والاحتياطات التي سيج بها ترجمته.

وتناولت في الفصل الثاني من هذا القسم ترجمة بلاشير للشعر العربي وتعرضه لبعض قضاياه ولبعض قائليه، كما سلطت الضوء على تركيزه على المتنبي الذي أفرد له كتاباً مستقلاً نوه فيه إلى صعوبة فهم غير العرب لشعرهم؛ فتذوقه وترجمته –كما يرى- لا بد لهما من شروط. وقبل أن تتعرض لهذا الكتاب، الذي كان أطروحته للدكتوراه، ذكرت مقاله المطول عن صيرورة الشعر العربي وتغير بناه ومفاهيمه بداية من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث. أما عن دراسته لشعر المتنبي، التي ترجمها إبراهيم الكيلاني، فقد ذكرت أنه تعرض فيها إلى تاريخ الدراسات، القديمة والحديثة العربية والغربية، التي تناولت شعره بالشرح والنقد من مماته وحتى زمن تأليف الكتاب، كما أشارت إلى المقال المطول الذي عقب فيه على بعض ما جاء في دراسته السابقة عن المتنبي فصل فيه الكلام عن بعض ما أُدرج في ديوان المتنبي من أشعار بعد مماته، وتحدث عن إمكانية إعادة ترتيب ديوانه من جديد، وبعد ذلك تعرض لشخص المتنبي ومكانته وموضوعات شعره وأوزانه وقوافيه.

وفي مقال آخر بعيد تماماً عن المتنبي ذكرت المؤلفة أنه تعرض فيه سيميائياً لمصطلح (عروض)، من خلال رصده لتطور هذه المفردة دلالياً، كما تطرق فيه إلى بعض الدراسات القديمة والحديثة عن عروض الشعر العربي، وقد أثار قضايا عروضية أخرى في كتاب تاريخ الأدب العربي وفي مقال آخر عن عروض الشعر العربي؛ ولعل من أهم هذه القضايا تفريقه بين القصيد والرجز من خلال خصائصهما المختلفة، وتشكيكه في قدرة العربي البدوي على أن ينظم شعره في ستة عشر قالباً عروضياً، ورغم ذلك نجده يقدم إعجابه الكبير بفكرة الدوائر العروضية ويقترح إعادة دراستها والتفكير فيها من جديد، وختمت المؤلفة الخمليشي هذا الفصل بنقد لاذع لبلاشير ولغيره من المستشرقين الذين جلدوا العروض العربي بمصطلاحاتهم التي تتناسب مع تحليل الشعر الأوروبي الذي يعتمد على نظام النبر والمقاطع الصوتية، وهو الأمر نفسه الذي انتقدهم عليه إبراهيم أنيس في كتابه موسيقى الشعر.

أما الفصل الثالث فقد تناولت فيه ترجمة بلاشير للنثر العربي، الذي عرض لتاريخه ولتطوره في كتاب تاريخ الأدب العربي، وقد فصل في تأويل كلمة (سجع) وذكر شيئاً يسيراً عن الأدب القصصي عند العرب، واختتمته المؤلفة بذكر القواعد الخاصة التي وضعها بلاشير لترجمة النثر العربي.

وحين أتت المؤلفة إلى القسم الثالث خصصته للممارسة النصية عند ريجيس بلاشير وخصصت الفصل الأول منه لنصوص مترجمة من القرآن الكريم، وقد اتخذت لها من سورتي الفاتحة والفلق وكذا الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور نماذج تمحص بها مدى قدرة بلاشير على نقل معاني القرآن إلى الفرنسية، مقارنة ترجمته بترجمات مختلفة للآيات والسور المذكورة، وهذا كله جاء بعد أن عرضت رأي بلاشير في صعوبة ترجمة القرآن؛ باعتباره نصاً أدبياً متعالياً ومستعصياً على الترجمة، ذاكرة مزالق ترجمته وميزاتها عن غيرها من الترجمات.

أما الفصل الثاني من هذا القسم فخصصته لترجمة بلاشير للنصوص الشعرية العربية التي يرى أنها جنة خفية، وأوردت بعض ما ترجمه للمتنبي وقسمته حسب الأغراض ذاكرة بعض المآخذ على ترجمته للشعر الذي يمتاز بالانفتاح الدلالي، كما ذكرت بعض الميزات التي تحسب له ولترجمته لشعر المتنبي. أما ترجمته للشعر العربي فقد اقتصرت على ما ترجمه من شعر شعراء الحجاز، أمثال النابغة وعمر بن أبي ربيعة والعرجي، وذكرت بعض رؤاه عن بيئة الشعراء وحياتهم وميولاتهم، وعن محافظتهم على البناء التقليدي للقصيدة الكلاسيكية؛ رغم عيشتهم في بيئة حضرية، وعن اختلاف مفاهيم الشعر لديهم، وعن تعدد الأغراض التي كتبوا فيها، وقد أفضى كل ذلك بالمؤلفة إلى أن تتعرض لعلاقة الذائقة والموهبة بالترجمة الأدبية؛ من أجل أن تحكم على ترجمة بلاشير للشعر العربي بأنها كانت نابعة عن موهبة وذوق وعشق رفيع للتراث الشعري العربي. وقد تطرقت في ختام هذا الفصل إلى اهتمام بلاشير بشعر المرأة العربية، وإن كان أغلبه –حسب ما يرى- مرتبطاً بالرثاء، كما أشارت إلى أنه التفت إلى النساء العربيات المثقفات والناقدات.

وحين انتقلت إلى الفصل الثالث من هذا القسم تعرضت إلى ترجمة بلاشير للنص النثري العربي، الذي يرى أن قواعد ترجمته إلى الفرنسية تختلف عن قواعد ترجمة الشعر، وذكرت أنه ترجم أفناناً مختلفة من النثر العربي، منها ترجمته لبعض مقامات الهمذاني، التي قدم لها بدراسة سيميائية لمفردة (مقامة)، واختارت المقامة الغيلانية لتكون نموذجاً على ذلك، وتطرقت إلى صعوبة تحديد جنس المقامة وصعوبة ترجمتها، وإلى الدور الذي لعبته ترجمة بلاشير في التعريف بفن المقامة وتقريبها من أذهان العامة وتداولها فيما بينهم. بعدها اقتربت من الأمثال التي خصص لها بلاشير موطناً في ترجماته وكتاباته فتعرض لتاريخها ومفهومها ومتى تكون قولاً مأثوراً ومتى تكون حكمة، وأشارت إلى تعرضه لاختلاف تأويلها ولشروحاتها ولمميزاتها، كما ذكرت في ختام هذا المبحث الأهداف الدفينة للمستشرقين من وراء دراستهم للأمثال، كما ذكرت فيما تبقى من أوراق هذا الفصل اهتمامات بلاشير بتحقيق المخطوطات وعلم الجغرافيا، الذي قدم له قواعد تساعد على ترجمة نصوصه، هذا بالإضافة إلى اهتمامه بصناعة المعاجم والموسوعات عند العرب ودراستها دراسة تاريخية مستفيضة.

أما القسم الرابع والأخير فخصصته لمدرسة بلاشير في الأدب العربي، وقد قسمته إلى فصلين؛ الأول منهما أوردت فيه بعض أعلام المدرسة البلاشيرية ومؤلفاتهم المختلفة؛ كجون سوفاجي وأندري ميكيل وشارل بيلا والمغاربي: جمال الدين بن الشيخ والسوريين: أمجد الطرابلسي وإبراهيم الكيلاني وصالح الأشتر، وما مضى جاء بعد أن عرضت لسيرة حياة بلاشير ورصدت مجمل مؤلفاته عن العرب وتاريخهم وأدبهم، ولم تغفل في الأخير ذكر وصيته التي فحواها أن يكفن حين وفاته بجلبابه المغربي. وخصصت الفصل الثاني لامتدادات المدرسة البلاشيرية، في الوطن العربي، في تقديم ترجمة وافية لكل عَلَم من هؤلاء الأعلام الذين تتلمذوا تلمذة مباشرة أو غير مباشرة على بلاشير أو على مدرسته ومنهجه.

اترك رد