أصل دائماً متأخّراً إلى ما يخصّني، ومريمتي الغالية لا تعتب، لأنّها تعايش متاعبي وسهري وانشغالاتي الدائمة في سبيل هدف أسمى، قد يكون حلماً، أو تصوّراً من خيالاتي الطفوليّة. وعندما أضع النقاط على الحروف، وأعرف كم من الناس يعتقدون أنّ ما أفعله هو لا شيء، وأنّ اللاشيء هو كلّ شيء، فتعتريني رهبة، وأحاسب نفسي على مقدار ما طمحت إليه، فلعلّه لا قيمة له، ولن يكون لي في المستقبل أيّ دور، ولن يذْكرني أحد أو يعترف بفضلي…
هو خوف دائم يتملّكني، كلّما أنتجت وأعطيت، فكأنّ قدر المعطي أنّ يشعر بالعجز الدائم عن العطاء، بينما هناك من يقولون له: كفى. لقد أتعبتنا بما تفرضه علينا من واقع يزعجنا التفكير به. وعلى الرغم من ذلك، أصارع الريح والبحر وأغالب الصعوبات، وما أكثرها في هذه القارة التي تنأى فيها طائفة من الناس بأنفسهم عن أي مباركة، في تنظيم منسق، يقوده بعض مَن يستميتون من أجل إحقاق المساواة، وهي أقبح المصائب في الإبداع والفنون… لكن مَن يقوّيني في مغامرتي سوى طائفة من أهل العدل والرؤية على المقلب الآخر، حيث الضوء والفكر الحر المتجرد من القيود والمصالح؟ ثلّة من المبدعين الذين أعرفهم أو لا أعرفهم سوى من بعيد، لكنّهم يسكنون في القلب ويرمون بمفاتيح قصورهم في المحيط، عازمين على المكوث طويلاً وعدم المغادرة. هؤلاء فرحي في الحياة، أنظر إليهم بفخر كما أنظر إلى من يجْحدون بكآبة وخيبة… وكما يزعجني فعلاً هذا الكم من احتقار العطاء، يرفع روحي هذا التقدير من الكبار فعلاً، وغبطتي مع هؤلاء خالدة وفردوسيّة الأبعاد. وها هي مريم، الجميلة، الهادئة، المتزنة، الزوجة وأم الحياة، العميقة فكراً وأدباً… تضيء على قصّة هي من أجمل رواياتي الأربع، وأجمل ما فيها أنّها تتماهى مع الواقع المؤلم الذي يعيشه أهل لبنان. وما هي القصّة؟ ببساطة هي عمل متكامل دقيق وصعب.
وما أصرفه على قصّة يفوق بعشرة آلاف مرة ما أصرفه على قصيدة، فكتابة قصيدة قد تستغرق دقائق، وكتابة رواية قد تستغرق سنتين. وإذا أحصينا ما يُنشر من قصائد مقارنة بما يُنشر من قصص قصيرة أو روايات، لوجدنا أن الشعر يتفوّق بآلاف المرات أيضاً، وقلّما نجد اليوم أحداً لا يكتب شعراً، وهذا يعود إلى شغف العرب بالشعر، فكأنّ الله خلقه وكسر القالب، بينما هناك عظماء لم يكتبوا شعراً، أو كتبوا قليلاً منه، كجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني وطه حسين… وهؤلاء عباقرة أيضاً… وللدلالة على عشقنا للشعر، فإنني لو نشرتُ قصيدة مفككة من 20 كلمة، لا أبعاد فكرية ولا فلسفية ولا إنسانية فيها، فإنها ستحوز على التصفيق والإعجاب، ولو نشرتُ قصّة فيها أبعاد ذات قيمة، فلن تحوز إلاّ على قليل من الإعجاب. لكن هل تكون الفرادة في مواكبة ما هو قائم؟ وهل نؤسس لأدب مهجري فاعل وجديد من خلال القصيدة؟ وماذا نضيف إذا لم ننشئ ثورة على ما هو شائع؟… تقول مريم صدقاً: “إن الفرادة هي في أدب مهجريّ متنوع وراق، وتحليقه في سماء بعيدة عن الشعر والتهويمات.” وهذه الثورة هي الفيصل بين الجدّ واللعب، بعيداً عن التكرار والتقليد، فليس الأدب في أفكارنا الاغترابية هواية ولا شغفاً، ولا اشتهاء للتقليد، ولا لعبة تسلية بعد التقاعد من العمل. ولذلك تذكر مريم أمراً مهمّاً عندما تقول: “عندما دعا الدكتور كلوفيس كرم، والأستاذ محمد العمري مشروع “أفكار اغترابية” للأدب الراقي، بالـ”نهضة الاغترابية الثانية”، أي بعد الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، وضعا نصب أعينهما بالتأكيد، رصيد الدويهي المتنوع بشكل غير مسبوق، كما وضعا الأديب أمام مسؤولية، فحملها بكل عزيمة وإصرار. ولا يزال أمامه الكثير ليحققه، وقد ينجح أو لا ينجح… لكنه يحاول مُلكاً، ويطمح، ويفكر ويعمل، ويضحي تعباً وسهراً ومالاً… والمستقبل كفيل بأن ينصفه أو يظلمه”.
الناس ميّالون إلى رفض كلّ جديد في بداية أيّ مسيرة، لكن في النهاية سيصبح التغيير حالة مفروضة من خلال حتمية تاريخية لا بدّ أن تعطي كلّ ذي حقّ حقّه… شكراً من قلبي للأديبة مريم الغالية، التي قرأت القصّة وعلّقت عليها، وكشفت عن كثير من رموزها وأبعادها، وانطباقها على الحالة التي يعيشها شعبنا في “زمن الجوع” الذي لم يسبق له مثيل إلا في الحرب العالمية الاولى.