للنهضة الاغترابية الثانية رائد عبقريّ، كما تسميه الأديبة كلود ناصيف حرب. فليس الدويهي شاعراً فقط. ولن نكرر ما قلناه أكثر من مرة عن جميل الشاعر بأنواعه الثمانية، وفكره، وقصصه، ودراساته النقدية. فالتكرار أصبح مضجراً، لكنه مفيد، لأنه يقرع باب الحقيقة، ويعكس أهمية وضع الأعمال في الميزان للحكم عليها. وفي روايته الرابعة “حدث في أيام الجوع” يؤكد الدويهي مرة أخرى فرادته في أدب مهجريّ متنوع وراق، وتحليقه في سماء بعيدة عن الشعر والتهويمات. فهو صاحب “المدينة الخالدة”، وقليل عليه الشعر الذي هو فرع من فروعه، وقامة من قاماته.
وعندما دعا الدكتور كلوفيس كرم ، والأستاذ محمد العمري مشروع “أفكار اغترابية” للأدب الراقي، بالـ”نهضة الاغترابية الثانية”، أي بعد الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، وضعا نصب أعينهما بالتأكيد، رصيد الدويهي المتنوع بشكل غير مسبوق، كما وضعا الأديب أمام مسؤولية، فحملها بكل عزيمة وإصرار. ولا يزال أمامه الكثير ليحققه، وقد ينجح أو لا ينجح… لكنه يحاول مُلكاً، ويطمح، ويفكر ويعمل، ويضحي تعباً وسهراً ومالاً… والمستقبل كفيل بأن ينصفه أو يظلمه.
قصّة “حدث في أيام الجوع” تبرهن أن أديبنا لم يفارق وطنه، وإن يكن غاب عنه بالجسد. فالقصّة تجري في منطقة لبنانية لا يسميها، لكنني أعتقد أنها في الشمال، حيث قلعة ذات حجارة سمراء، ونهر يجري بين البساتين. وحقول غزاها الجراد. كما تحدُث بعض أجزائها في شرق لبنان، وتحديداً البقاع. والأبطال: عبدالله ووالده ووالدته، وأخته سلوى، وأم سليمان، ومنصور، والعم أحمد، وأبو ليلى… كلهم لبنانيون أقحاح، لكل واحد وظيفة ودور في رواية متماسكة، تذكّرنا بزمن الرواية الصحيح، قبل أن يدخل عليها الشعر المنثور، والأفكار الملتبسة، فلا يبقى منها “شيء يخبّر”.
الجراد يغزو البلاد، وهو جراد إنساني، في رمزية إلى الطبقة الحاكمة التي أكلت الأخضر واليابس. ويضطر عبدالله إلى السرقة ليعيل أسرته، وهو بعد في الربيع السادس عشر من عمره. ويموت والده في ظروف مأساوية، فيصبح مهرباً للآثار مع “أبو ليلى”. ويقع في قبضة السلطة الغاشمة، ويكون مصيره السجن مع العم أحمد. وينجح الرجلان في الفرار، بعد أن تُهرّب شقيقة عبدالله، سلمى، إلى السجن شفرة لقطع الحديد. وسلمى نفسها لها معاناة أخرى، فقد تزوجت من منصور البخيل واللئيم، وتحولت حياتها إلى عذاب ومعاناة، فقد أجبرها منصور على بيع جسدها ليحصل على المال، وتنتقم منه في النهاية بأن خنقته بقميص شقيقها، رمزية”قميص يوسف” الأداة للخلاص والنجاة.
“حدث في أيام الجوع” مرآة هذه الأيام، وليست من عهد العثمانيين، والكاتب لا يشير إلى الزمان، بيد أننا نستطيع إيجاد توازن دقيق بين ما يجري في القصة وما يجري في لبنان اليوم، حيث المجاعة والفقر، والسرقة، وانتهاك الكرامة… بينما السياسيون يتمتعون بالثروات، ويذيقون الشعب مرارة وإذلالاً:
“الخبز في هذه الأيّام نادر وشحيح. والذي يملك رغيفاً يمكنه أن يشتري به قطعة أرض، أو قطيعاً من الماشية. والذين عاشوا في تلك الفترة يخبرون أنّ بعض الناس اشتروا قصوراً بحفنة من الطحين، وبعضهم كانوا يبيعون ذهب نسائهم برغيف”. أما على الدولة والسياسيين، فيصب الدويهي جام غضبه، وكأنه يثأر للناس، أو يقرع الرؤوس التي أينعت: “لو أنّ الدولة التي نحيا في ظلالها، تعتبرنا شيئاً مهمّاً، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه… نحن في نظرهم عدد من الرؤوس التي تلفحها الشمس، ويضربها الهواء، كما الأعمدة… أو كما الفزّاعات في الحقول… أما نرى كلّ يوم كيف يتباهى الحاكم بأثوابه الفضفاضة، وبقصوره، وأمواله وخدمه… وقد جعل البلاد ملكيّة خاصّة له ولأسرته… والأمم العظيمة لا يكون أبناؤها أرقاماً، بل يكونون حُكّاماً على الحاكمين… عندما كان الجنود يبحثون عنّي لأنّني سرقت رغيفاً للبقاء، كان السارقون يظهرون في كلّ مكان، فلا يغطّون وجوههم، ولا يخجلون من ماضٍ يدينهم، ولا يخشون من قانون، فالجنود هنا يطلقون النار على القتيل ويعفون عن القاتل… بل ينحنون أمامه صاغرين، ويدعون له بطول العمر والثراء”.
صورة مأساوية تتكرر مرات ومرات في القصة، ولا مجال لذكر جميع الأمثلة التي يستخدمها الدويهي، في ثورة نصية على الوضع في بلاده. ولا يتردد في الحديث عن المومياءات: “المومياء هي التي وضعت لعنة، مومياء قديمة في عينيها شرور وقبائل تتحارب، وفي قلبها جشع وضغينة على كلّ ضياء. المومياءات تظهر في الليل. تقوم من الخرائب والقبور. تنفض عنها غبار الماضي السحيق، ترمي بأكفانها تحت جناح العتمة وتصيح بأفواه كبيرة. مومياءات تضرب في الدروب الموحشة، تتهامس حول البيوت، تدخل من الأبواب والشبابيك لتختطف الأطفال من أسرّتهم، وتغتصب الفتيات العذارى، وقبل أن يطلع الصباح، تعود إلى مهاجعها، في غابات الصمت، وتترك وراءها خيوطاً من الدم والدموع كآثار باقية”.
كم هو رائع هذا الاسقاط الرمزي – الواقعي! والدويهي من رواد هذا المنحى الذي يمزج بين الرمز والواقع في جميع أعماله النثرية والشعرية.
وبلغة صريحة يدعو الدويهي إلى الثورة، لكنه لا يرجو من هذه الثورة أي نتيجة، بسبب تحجّر الغالبية العظمى في حدود الطوائف والأحزاب والانتماءات الضيقة: “ ثورة الجياع لا يمكن أن تطول، فالأفواه مقطّبة، والعيون مغمضة، والأصوات محبوسة في الصدور، لا تكاد تعلو حتّى تنخفض وتتلاشى، يتحكّم بها أرباب السلطة والمال، تحت شعارات كثيرة، منها الدِّين، والعقائد المتفرّقة، والتخويف من تحويل الثورة إلى حرب ضروس… وهكذا يجد الناس أنفسهم مجبرين على السكوت، ولو كانوا على أبواب القبور، ولا تفصلهم عن العتمة الأبديّة إلاّ مسافة قصيرة”.
فهم الدويهي اللعبة، وقد شهدنا فصولها على شاشات التلفزة، ورأينا كيف حوّل السياسيون الثورة إلى فعل جرمي، وعمل استخباراتي. وبعضهم اعتبر أنه هو قائد الثوار، وبعضهم الآخر أنزل جماعته إلى الشارع لينشروا الفوضى ويتهموا الثوار بأنهم مخربون… والأبشع من ذلك انكفاء الثورة بعد نداءات من زعماء الطوائف والأحزاب، فعاد كل ثائر إلى منزله، وتاب كثيرون.
ويبدو أن عبد الله هو الباقي من قليل من الثوار، بل هو نموذج عن كل إنسان دفعته الحاجة إلى السرقة والتهريب لإنقاذ نفسه وعائلته من الموت. بينما والده هو صورة كل والد يبحث في البراري والقفار عن شيء يمكن أن تأكله عائلته.
ولعبدالله هويات متعددة: سارق لرغيف، مهرب للتحف، هارب من السجن، عامل في حقل تفاح بعد ركونه إلى الهدوء، ثم منتقم لأخته من منصور، وهذا الأخير رمز السلطة الطاغية على المرأة، والنموذج لكل رجل غاشم يستهتر بجسدها وروحها، ويعتبرها سلعة من حقه أن يبيعها لمن يشاء.
ولا يبدو بيع المرأة مقتصراً على حالة سلمى، بل هناك حالات كثيرة أفرزها الجوع والفاقة: “فتيات في عمر الورود… خلقهنّ الله آيات في الجمال، تُباع الواحدة منهنّ بدراهم قليلة… وسمعتُ أيضاً عن بيع الأولاد والفتيات الصغيرات…. والمتاجرة بالفتيات لا تحدث هنا فقط… وروى بعض الناس أنّ امرأة أرادت أن تبيع واحدة من بناتها، فاستهجن المارّة فعلتها، وعرضت على أحد الأغنياء أن يأخذ الابنة هديّة لكي ينقذها من ذلّ المجاعة”.
لا شك في أن موضوع القصة الأساسي هو الجوع، لكن الكاتب يتطرق إلى موضوع بيع المرأة، من قبل زوجها، كظاهرة انحطاط انساني وأخلاقي. ويكون الخلاص بقميص عبدالله، كما كان خلاص عبدالله من السجن بشفرة تقطع الحديد هربتها شقيقته إليه…
هي قصّة الإنسان اللبناني المقهور، يكتبها أديب مهاجر، وكأنّه يعيش في بلاده، وقبلها كتب قصّة “الإبحار إلى حافة الزمن” التي تجري أحداثها في أستراليا. وكـأني به مرّة يعيش “أستراليّته” بكل ما اكتشفه من قيم ومفاهيم حضارية في الغربة، ومرّة يعيش “لبنانيته” التي لا ينساها، فيتضامن مع شعبه، ويتألم لألمه، ويشاركه تجربته الصعبة في زمن الجوع هذا.
لقد انتصرت إرادة البقاء، بعد أن بشر الكاتب بأن قميص يوسف هي علامة انتصار وإظهار للحقيقة: “عندما تُذكر قصّة يوسف، يُذكر معها كيف أنّ إخوته أخذوا قميصه إلى والده يعقوب، وعليه دم الذئب، كما زعموا… إلاّ أنّ رائحة يوسف التي خرجت من القميص أعادت إلى يعقوب بصره، وتبيّن أنّ يوسف لم يأكله الذئب، بل كان ضحيّة إخوته الغادرين الماكرين.
ولا بدّ أن تنكشف الحقيقة ذات يوم، وتعود البصيرة إلى كلّ يعقوب، وتصير القميص أداة للعقاب، وكذلك للخلاص من الظلم والتجنّي… ولا بدّ أيضاً أن تنفتح أبواب السجن الذي دخله يوسف، فيخرج منه إلى الشمس والضياء، وتنتهي حكايته الطويلة مع الأحزان.”
نعم، أصبحت القميص أداة للعقاب وللخلاص، عندما تمكنت سلمى من خنق منصور بقميص أخيها، لأن قتل منصور هو قتل زمان بكامله، وخلاص من الموت المحتم، فقد كانت سلمى مخيرة بين الهوان والإذلال، أو أن تتخلص من رجل يميتها كل يوم، وينتهك كرامتها.
*قصة “حدث في أيام الجوع” صدرت في سيدني 2021، ونشرت على موقع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي.
***
(*) مشروع أفكار اغترابية – النهضة الاغترابية الثانية – سيدني 2021