في وداع سماح إدريس

  ابراهيم مشارة

                    (الجزائر)

وأخيرا ترجل الفارس بعد رحلة قصيرة ومضنية مع المرض الذي لا يرحم ضحيته حتى ينتهي به إلى النهاية الفاجعة، ورحلة شاقة وطويلة مع الحرف والموقف والالتزام، وإن مات سماح وتوارى بجسده المثخن بالجراح فإن روحه سوف تبقى حية باقية بيننا نتمثل مواقفها وأبجديات نضالها وصمودها.

رحل سماح إدريس (1961 ـ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لكن مواقفه باقية تشكل منارة هادية لنا، في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل والحق بالباطل والعلم بالتعالم والمواقف الرجولية بالانتهازية. زمن يغدو فيه اليمين يسارا واليسار يمينا بجرة قلم، بفتات يسير يلقى من عل، أو بصورة إعلامية دعائية أو بحقيبة سياسية، وما شئت من ألوان الإغراء والصيد الذي غدت فيه الثقافة مطية للوجاهة والنجومية والنفوذ والتكسب الفاضح.

لم يكن الراحل سماح من هذا اللون من الناس محترفي الفكر والكتابة والفعل الثقافي، الذين لبسوا مسوح رهبان الفكر ودونكشوتات الثقافة، بل كان بروميثيوس العربي الذي يطعم الناس من فلذات كبده وعصارة فكره ويختط لهم طريقا يابسا في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من أمواج الشبهات والانتهازية والدجل أو العمالة المفضوحة.

هل نقول إن اسمه المستوحى من اليسر والسماحة واللين، وهو المعروف بالحدب على الناس، خاصة مستضعفيهم، والانتصار للإنسان المسحوق والمهمش المجدوع الأنف بتوصيف صلاح عبد الصبور، وفي حب الحياة ومتعها، الحياة التي يلج إليها الإنسان الحق من عتبة الحواس قبل الكلمات والكتب، الحياة في نضارتها وعفويتها، في مباهجها وآلامها، في جدليتها وتجاذبها وصراعها، بين الذكورة والأنوثة، وفي صراع طبقاتها وهيمنة رأسمالييها وساستها ومافياتها ولوبياتها، المتعددة الألوان المتوحدة المقصد؟

عاش سماح إدريس في سماء من الكبرياء والترفع ـ لا في برج عاجي – غير ملتفت إلى أي إغراء ومطامع شخصية لصالح الإنسان والخير والعدل والجمال، وهو المثقف النقدي المنخرط في مشروع تجديد الفكر القومي العربي والناشط العلماني. هو القومي واليساري الذي ظل وفيا لهذا الخط، ولو شاء أن يجعل من الآداب منبر دعاية لليمين أو التطبيع لتهافت عليه الساسة ودوائر الإعلام والمال، لكنه آثر المبدأ، وحياة المبدأ مكلفة شاقة وعسيرة لا يقدر عليها إلا الإنسان الطليعي والمناضل، الذي يلتحم بقضايا أمته ويسترخص في سبيلها كل تضحية وكل غال. وهو نصير فلسطين الأبدي، التي خذلها الساسة وباعها المرتزقة في سوق نخاسة العصر مقابل الحفاظ على كراسيهم وامتيازاتهم، وقد شكل في لبنان جبهة لمقاومة التطبيع وجعل بمعية رفاقه من لبنان صرحا باذخا يحول بينه وبين الاستخذاء والهرولة والانبطاح، وظل ذلك دأبه حتى أفضى إلى ربه.

لقد كان الشاعر القديم يقول:

بأبه اقتدى عدي في الكرم

ومن شابه أبه فما ظلم

وقد اقتدى سماح بوالده الراحل سهيل إدريس (1925/2008) الروائي والناقد والمترجم ومنشئ دار الآداب ومجلتها، التي نشرت الأدب الرفيع عام 1953 وقد خلفت بجدارة الرسالة والثقافة والكاتب المصري، كما تولت هذه الدار نشر الدواوين الشعرية التي شكلت فتوحا في مجال الكتابة الشعرية، وكذا السرديات المهمة والدراسات النقدية الجادة والمبتكرة، وعبر هذه الإصدارات التي تولت نشرها لأدباء بدأوا شبابا أو كهولا فأذاعت إنتاجهم في العالم العربي برمته، ويكفي المرء أن يقرأ اسم «دار الآداب» على الغلاف حتى يدرك أن هذا الديوان أو هذه الرواية أو الدراسة النقدية، أعمال مهمة تستحق النشر في دار الآداب، فعرف القارئ العربي أسماء حنا مينة ومحمد برادة ومحمد شكري وغيرهم، وعبر الترجمات التي قدمتها لأهم الأعمال الروائية والدراسات النقدية الغربية، خاصة المذهب الوجودي – وكان سهيل إدريس متحمسا لهذا المذهب – فنشرت أعمال سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار وغيرهم. كما ظل سهيل إدريس صاحب قاموس «المنهل» الفرنسي العربي الذي لا تخلو منه مكتبة كاتب أو مثقف أو سياسي أو اقتصادي، فهو بحق من الإنجازات الكبرى لدار الآداب وهو الروائي صاحب الرواية الذائعة «الحي اللاتيني» في جدلية الالتقاء بين الشرق والغرب، و»أصابعنا التي تحترق» بلمسة وجودية وهو زوج الكاتبة عايدة مطرجي والدة سماح.

تولى سماح رئاسة هيئة تحرير مجلة «الآداب» منذ عام 1992 حتى عام 2012 ثم رئيس تحريرها بعد أن تحولت إلى مجلة إلكترونية عام 2015.

هذا هو سماح سليل بيت توارث عشق الحرف وصلابة الموقف والانتصار للإنسان والتفاؤل بغد عربي مشرق، لا إقصاء فيه تصنعه الكلمة ـ وفي البدء كانت الكلمة – ويتولى فيه المثقف النقدي دور الحادي والرائد والطليعة مثلما كان الأمر مع رواد التنوير في الغرب منذ فولتير وديدرو ومونتيسكيو وغيرهم.

ظلت الآداب بفضل سماح نافذة على آداب العالم، ومنبر كل مثقف طليعي، جاد، تقدمي لديه الجديد والجاد والمبتكر، أكان شعرا أم سردا أم نقدا، رغم عراقيل الطبع والنشر والتوزيع والمشاكل المالية، ومتاعب الرقابة والعقبات الجمركية في الموانئ والمطارات العربية، وبروح المواكبة وتمثل الإشكاليات ركبت الآداب موجة التحديث، وغدت مجلة إلكترونية تخففا من أعباء النشر والتوزيع، وهروبا من متاعب الرقابة، ورغبة في الانتشار العرضي.

وللراحل مساهمات في النقد عن رئيف خوري المثقف البارز والطليعي والناقد المطلع «رئيف خوري وتراث العرب» وعمل نقدي جاد ومبتكر عن المثقف والسلطة «المثقف العربي والسلطة بحث في روايات التجربة الناصرية» وبالاشتراك دراسة «صناعة الهلوكوست تأملات في استغلال المعاناة اليهودية». كما أن له مساهمات في أدب الطفل والكتابة للأطفال، بل التخصص فيها إيمانا منه بأن الغد العربي الموعود يصنعه أطفال اليوم، دون الإحساس بعقدة نقص، فكثير من الكتاب والمثقفين يرون في هذا اللون من الكتابة انتقاصا من قدرهم أو زراية بأقلامهم، تماشيا مع العرف أن الكتابة لا تكون إلا للكبار، وحتى هذا الميدان ميدان الكتابة للطفل كان عرضة لطغيان الروح الانتهازية والتجارية البحتة من قبل بعض من لا يحسن هذا الفن، ولا يستثمر فيه بروح إبداعية وإنسانية وفنية، وقد كان هاجس سماح تيسير اللغة العربية باعتماد الفصيح السهل والمتداول والمواكب لروح العصر وثورته العلمية والتقنية والمعلوماتية، بعيدا عن التعقيد والتقعر والتصنع، حتى لا يضر بالغاية التي يرمي إليها، وهي إعداد طفل عربي قارئ ومثقف قومي المنزع بفضل الكلمة التي تصنع وجدانه وعقله. وكان آخر ما يود إصداره قاموس «المنهل عربي عربي» تماشيا مع فلسفته اللغوية التي ذكرناها آنفا، ويبدو أن هذا القاموس على وشك الصدور أو تنقصه اللمسات الأخيرة فقط.

هذا هو سماح إدريس ابن لبنان مولدا ونشأة وفلسطين التزاما والقومية انتماء المناهض للتطبيع وثقافة الاستخذاء والانبطاح والهرولة، وهذا هو سماح الملتزم بقضايا الإنسان، الذي قزمته الحاجة وألغت فيه الرأسمالية المتوحشة بعده الثالث الإنساني والروحاني لصالح الهيمنة بتحالف بين القوى الرجعية السياسية والثقافية والدينية، وهو رئيس حملة مناهضة داعمي إسرائيل في لبنان منذ عام 2002.

وإذا كان ملاح صلاح عبد الصبور في» الظل والصليب» قد مات من غير جرح ومن غير دم، من غير نزال ومات قبل الموت حين ودع الأحباب والزمان:

ملاحنا هوى إلى قاع السفين واستكان

وجاش بالبكا بلا دمع بلا لسان

ملاحنا مات قبيل الموت حين ودع الأصحاب

والأحباب والزمان والمكان

عادت إلى قمقمها حياته وانكمشت أعضاؤه ومال

ومد جسمه على خط الزوال

كان سليم الجسم دون جرح، دون خدش، دون دم

ولم يعش لينتصر ولم يعش لينهزم

فإن سماح مات بجسد مثخن بالجراح من النزال، وعاش لينتصر لأنه اندغم في الزمان والمكان، وتمثل الهم والمصير الإنسانيين، وتوسم في الغد العربي أملا تصنعه الكلمة، ويضيء طريقه الموقف الملتزم، مع رفض المساومات كافة وروح الاستخذاء أو صيد الفرص المناسبة، في عالم تحول إلى جلاد وضحية وكان آخر ما كتب «إذا تخلينا عن فلسطين تخلينا عن أنفسنا». ستظل «الآداب» منارة بأرشيفها وروح سماح شامخة بمواقفها شموخ أرز لبنان، ثابتة ثبات صنين وستبقى فلسطين قلب العالم العربي ولؤلؤة الدنيا.

وعلى مواقف سماح نلتقي.

***

(*) القدس العربي

 

اترك رد