كانت تكبرني بأكثر من ربع قرن، ومع ذلك كانت تبدو لناظري مثل طفلة، منذ أن التقيتُها في العام 1974، لأول مرة، في بيروت، في الأشرفية، في بيت صديقتها الفنانة سيمون فتال…
كانت طفلة، وقد رشحَني أستاذي أدونيس لتعليمها العربية، بعد أن عادت من كاليفورنيا للإقامة في بيروت من جديد، حيث ولدت وعاشت سنوات طفولتها ومراهقتها، قبل التخرج من “مدرسة الآداب الفرنسية”، والذهاب لدرس الفلسفة في السوربون، ومنها للإقامة والتعليم في الولايات المتحدة الاميركية…
سيكون لي عودة تالية إلى الراحلة العزيزة (1925-2021)، رفيقة العمر.
أكتفي، اليوم، بذكر بعض ما كتبتُه عن لقائنا الاول، في الجزء الثاني من سيرتي الذاتية (1971-1976)، الذي لم أنشره بعد :
“فاتحَني أدونيس في أمر تدريسي العربية للكاتبة والتشكيلية إيتيل عدنان، العائدة من الولايات المتحدة الأميركية إلى بيروت. رفضتُ العرض السخي، إذ ظننتُ أن أدونيس “يُرَتِّبُ” لي معاشًا إضافيًّا… لكنه استدركَ اعتراضي بأن حدّثني عن معنى هذا الجهد، وقيمته، خصوصًا وأن عدنان كاتبة معروفة، بالفرنسية والإنكليزية، عدا أنها أستاذة فلسفة وفنانة تشكيلية، وسبقَ أن نشرت لها مجلتا “شعر” و”مواقف”.
عند باب الشقة، استوقفتُ أدونيس قبل الخروج : من يكون الجالس في الصالون ؟ ثم أكملتُ : أهو أخرس ؟ فأجابني باسمًا : إنه سليم بركات، الشاعر الكردي السوري، القادم من القامشلي…
في زيارة لاحقة لأدونيس اصطحبتُ بركات معي، ونزلنا إلى “ساحة البرج”. أكلنا سندويش فلافل في “مطعم فريحة”، ثم أكملنا مشيَنا حتى “شارع النبعة”، حيث كان يقيم…
فشلتْ ساعة التدريس الأولى مع إيتيل عدنان. اشترطتْ عليَّ، منذ بداية الدرس، أن أعلِّمَها العربية ابتداء من القرآن.
كانت تتحدر من عائلة متوطنة في بيروت، بينما كان والدها الضابط من أصل دمشقي قد تقاعد في بيروت إثر تسريحه من الجيش العثماني، بعد انفراط السلطنة، وبعد زواجه الثاني من صبية مسيحية من أصل يوناني، مقيمة مع عائلتها في إزمير… كانت إيتيل متوزعة بين شطري والدَيها، المتباعدَين دينًا وثقافة، لكنها كانت متمكنة من أكثر من ثنائية في ثقافتها (بين الفرنسية، الأولى، في “مدرسة الآداب الفرنسية” ببيروت، ثم الثانية، الأميركية، بعد انتقالها إلى كاليفورنيا، واستكمال دراستها في فلسفة الفن، والقيام بالتدريس فيها)؛ غير أنها ما كانت تتوانى عن التفكير في العربية مثل حنينٍ، أو طلبِ انتساب…
لكن إيتيل تيقنتْ سريعًا، بنباهتها ولطفها، من أن تعلُّمَ العربية صعبٌ، خصوصًا من القرآن، بعد أن أطهرتُ لها أنها لا تحسن “ترتيب” الحروف في كلمة عربية بسيطة، مثل : “مَوْعَد”، التي كانت تتلفظُها: “مَعْوَد”… انتهت الساعة (التي طالت أكثر) إلى مسعى آخر، وهو قراءة مقال غسان تويني الافتتاحي صباح الاثنين في “النهار”… كانت ساعة التدريس الأولى والأخيرة معها، من دون أن تنقطع صلتي بها، لا في بيروت، حيث ستعمل في جريدة جديدة بالفرنسية، ثم في باريس بعد سنوات قريبة”.
ابتسامة ايتيل هي التي استبقلتْني وودعتْني في زيارة أخيرة لها في باريس. في تلك الأمسية أهديتها نسخة من كتابي الصادر، في ترجمته الانكليزية عن “سكيرا’، وفيه فصلٌ عن تجربتها الحروفية الرائدة.
فتحتْ الكتاب، وراحتْ تتصفح صفحاته، وصوره، بل تتلمسه براحة يدها، بدهشة الطفل الذي يتلقى كتابا ساحرا في عيد ميلاده.
كانت نعمة الفن، بل هالتُه، هي التي كانت تنير شغف العينَين، فيما كانت تصعد منها تلك الانوار الخفية، وتتعقبها في الخارج، في الكتاب، في القصيدة، في اللوحة.
هذه الطفلة التي عاشت ما يقرب من القرن بين بيروت وباريس، وامام جبلها الساحر في سوساليتو الأميركية، احتفظتْ من ذلك الزمان البعيد بريشة الحبر، ومحبرته، وبدفاترها الصغيرة، وبجملها القصيرة، واصرارها على الكتابة بالعربية احيانا فيما ترسم، كما لو انها لا تني تكتشف الدهشة في ابسط العناصر إذ تبنيها، وتنشرها، بتلك الغبطة التي تنتشي بفعلتها، امام عيوننا المبتهجة.