سامر درويش
أوّل ما جال في خاطري عندما قرأت عنوان ديوان “بوهيميّة” هو فرقة The Queen البريطانيّة الّتي سادت ومادت وقد اشتهرمغنّيها Freddie Mercury بألبومه Bohemian Rharsody.
انطلقت الشاعرة ابنة كوسبا ميراي شحاده من (البوهيميّة) وما ترمز إليه من دون ديباجة: هي التي علّمتها الحياة (كما تقول) حبّ الربيع مهما عرّاها الخريف وصفعها الشّتاء، وكيف تنظر في مرآة ذاتها وتصارعُ غربتها المنعكسة فيها، بها، وعليها.
من خلال مطالعتي للكتاب المؤلف من ١٥٠ صفحة، ومن معرفتي الحديثة بالشّاعرة لاحظت أنّها امتلأت حزناً في إحدى مراحل حياتها لكنّها تغلّبت على الأحزان بفضل الكتابة وتصفية الحسابات مع (ذاتها) تلك الذات الشّعرية التي لا يجرؤ أحد أن يغوص فيها.
هي مسألة (حسب الذات) أو انعدام هذا الحبّ التي تحاول ميراي خفية طرحها أو مناقشتها أو الإشارة إليها، لكنها تجد نفسها تائهة في عالم آخر بعيداً عن واقعها، فهي الحائزة شهادة في الهندسة الميكانيكية والعاملة في مجال تكرير النفظ وتوليد الطاقة والمتعاقدة مع شركات عالمية في بيروت ودبي. لكن كلّ حقول النفظ لم تحل دون محو هوية ميراي الأدبيّة وميلها الى عالم الشِعر والثّقافة والكتابة، فالثروة الحقيقيّة للإنسان تكمن في ثقافته وأدبه وليس بقدرته الشّرائية.
رغم كونها سيدة أعمال منهمكة في مشاريع لا تحصى، أصدرت ديوانها الأول “يوم قررت أن أطير” عام ٢٠١٧ ، وتخليدًا لذكرى والدها شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده أسست منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي. وكانت لها مشاركة مهمة في المعرض السنوي للكتاب في الرابطة الثقافية في طرابلس، إذ خُصّص للسنة الثانية على التوالي جناح لمنتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده، استضافت فيه عشرات الشعراء والأدباء الذين وقعوا جديدهم، وهذه السنة وقعت ديوانها الثاني “بوهيمية” وأهدتني نسخة منه مع محبتها.
عندما تنظر إلى وجهها، يبدو على ملامح الشاعرة ميراي شحاده شئياً من الغرابة أو الفرادة ربّما محور الغموض، وإذا كان الوجه هو عنوان الإنسان، كما يقال، فمن الصعب أن تجد للشّاعرة عنواناً واضحاً لها؛ فهي غامضة، تعيش في عالم صامت بإطباق، لكنّه يضجّ بأصوات العمّال في الورشة وأصوات المعدّات الصناعيّة الثّقيلة والمولّدات الكهربائيّة الفائقة القوّة والإنتاجيّة، وصراخ الآنا المنبعث من تمزّق الذّات الإنسانيّة وانشطارها إلى نصفين كما يقول الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير مؤلف “أزهار االشر”.
ميراي شخصية (بوهيميّة) تعيش في متاهة لا خروج منها وتنهزم بالحبّ من أجل من تُحب، لكنها تبقى قويّة من الداخل كما تحاول ان تقول لنا بهدوء: “سأعبر القارات بيمين وأعيد ترتيب المحيطات فالهادئ يمسي في الهندي والجنوبي في الشمال. سأهديك إنهزامي بالحبّ وأسدل ستائر غربتي بريشة عاشق مجنون”
تحتفظ في وجدانها بذاكرة ورائحة والدها الرّاحل ووالدتها الرّاحلة، لكنهما لم يرحلا من طفولتها، ابتسامتها، أوراقها، أقلامها، جدران منزلها في كوسبا حيث كبرت وكبرت بها الطفولة وحبّ الشِعر والأدب. هي إبنة المربي- مدير ثانوية البترون الشاعر عبدالله شحاده- الذي لا تزال الدموع تسيل من عينيها عندما تحدثني عنه وعن مؤلفاته التي جمعتها له وأصدرتها في مجموعة أنيقة.
لا تزال تعاني من ألم الفقد، فقد الأبوين؛ وغياب من نحب، هو الألم الموجع الذي لا مثيل له. وهل هناك فضيلة أعظم من (برّ الوالدين) وتخليد ذِكراهما؟ هي الّتي أمضت طفولتها وشبابها في مدينة كوسبا وارتوت من بساتينها وتغذّت من أشجار زيتونها ودرست في أنوارها، اكتسبت بقداستها، تلك المدينة الاستثنائية ذات الإطلالة المقدّسة حيث لا يعكر صفو صمتها سوى خرير مياه نهر وادي قاديشا.
تكنّ حبًّا جامحاً لمدينة طرابلس وقد كشفت عنه في أواخر الكتاب: “طرابلس يا حبيبة، كنتِ وما زِلت أبيّة، عرين الثقافة أنتِ والطيبة الندية. سأجوب أحياءكِ وأعتلي منابرك وفي قلمي بندقية”.
ثائرة، هي، في وجه الظلم والفقر والجوع والطّائفية واندثار القيم الإنسانيّة السّامية وانعدامها بل انقلابها رأساً على عقب.
ثائرة على الذات، وعلى اللّغة والكلمات والنّاس، وإذا كان النّاس سطوراً كتبت بأقلام حبر متحولّة إلى بنادق، فبندقيّة ميراي هي سلاح فتّاك وحبرُها (بوهيميّ) لونُه ليس كبقيّة الألوان.