بقلم: د. عبدالرؤوف سنو
سأقارب الموضوع من خلال مسألتين: الأولى ماهية الدولة الحديثة، والثانية في ما استجد من تحولات في المجتمعات المدنية العربية منذ انطلاق “الربيع العربي”، حيث ألقت الثورات مزيداً من الضوء عليها كقائدة للتغيير وصاحبة المصلحة فيه.
من المعروف، أن الدولة الحديثة تنطلق من معايير مدنية أو عَلمانية، وهي مؤسّسة تبني سلطتها وَفْق أُسس وآليات قانونية وديمقراطية، وتعمل على تطوير قِيم الحرّية وممارستها، وكذلك المساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان والمرأة والطفل والأقلّيات، فضلاً عن أنها تُوحّد بين مُكوّنات شعبها، وتحمي “التعدُدية” بأشكالها والخيارات الثقافية والحضارية والتربوية، شرطَ عدم انكفاء مواطنيها إلى أفق طوائفهم أو مذاهبهم أو أعراقهم الضيّقة. فيجري تطبيق الديمقراطية على أسس المواطنة، فيتساوى جميعُ أفراد المجتمع ويتماسكون وراءَ فكرةِ الدولة والهوية الوطنية.
ويأخذ مفهوم الدولة الحديثة بعداً تنمويّاً عبر تأثير المجتمع المدني في رسم السياسات العامة للتنمية البشرية، وحصر دور الدولة في تهيئة بيئة قانونية وبنية تحتية ملائمة لنموّ القطاع الخاص. وفي مجال الاقتصاد، ينبثق عن الدولة الحديثة استقرارٌ سياسي مقبول يوفر لجميع أفراد المجتمع ومكوّناته العمل والحياة الكريمة وحقوقاً عادلة، وذلك من خلال آليات معروفة، كالمشروعات الاقتصادية، واعتماد نظام ضريبي عادل، ونظام مصرفي شفّاف يدعم الاستثمارات في المشاريع الإنتاجيةِ، وفوق كل شيء وجود قضاءٍ ونُظم قانونية عادلة تُطبَّق بفعالية ونزاهة على الجميع.
والدولةُ الحديثة، على الصعيد السياسي، هي تلك المؤسّسة التي تقوم على فصل السلطات، والتكامل بين الحقوق السياسية والحقوق المدنية، ويجري فيها تداوُل السلطة بطرق ديمقراطية، وتقوم على قانون انتخاب يتمثّل فيه الجميع، ويكون لديها القدرة على توحيد شعبها وصونه من النزاعات الداخلية. لكن يبقى أنّ أهم مقومات الدولة الحديثة هو الفصل بينها وبين الدين، وبينها وبين المجتمع. وكل ذلك يؤدي إلى ظهور مجتمع مدني ومُواطَنٍ أو هُوية وطنية جامعة.
وفق المواصفاتِ تلك، فلا وجود لدولة حديثة ولا وجود لمجتمع مدني في العالم العربي قبل الربيع العربي، بسبب:
1- سيادة الحزبِ الواحد أو هيمنةِ القائد الواحد (العسكري في معظم الأحيان) وتوارُث المناصب، والتحوّل إلى النظم الشمولية التي تحتضن جميع المستفيدين منها والمدافعين عنها.
2- غياب برامج التنمية الاجتماعية، وحصر القطاعات الاقتصادية التقليدية والريعية والمشاريع في أيدي المتربّعين على السلطة أو المتحالفين معهم.
3- التناقضِ ما بين الدولة والمجتمع المدني، حيث يعملان في مواجهة بعضهما بعضاً، بدلاً من تكامل الأدوار.
4- كمِّ الأفواه وتهميشِ منظّمات المجتمع المدني وإحكام القبضة عليها وجعلِها تابعة لها، أو إضعافها.
5- تغييب مؤسسات الدولة الفاعلة، والاستحواذ على القضاء، وتسخير الأمن والعسكر لمصلحتها.
6- عدم خروج الدول العربية في دساتيرها عن التشريع الإسلامي، في حين أنّ عدم التقيُّد بدينٍ معيّن هو أحد أهم سمات الدولة الحديثة، حيث يمكن لشعبها أن يكون ما يريد من ناحية المعتقد، بينما الدولة لا دين لها، وتتعاطى مع شعبها على أساس المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات.
7- إنّ الروابط والتشكيلات والاتحادات والجمعيات ووسائل الإعلام، والمدارس والجامعات والنوادي… إلخ، القائمة في معظمها على أساس الطائفة أو الدين أو الإثنية أو العائلية أو القبلية، موجودة بقوة في العالم العربي، وكثيراً ما تتضارب مصالحها الفئويِ مع مصالح الدولة الحديثة، وتتناقض مع مبدأ المواطنة.
وبعد مرور سنتين على “الربيع العربي”، لا تزال مجتمعاتنا بعيدة عن ولوج طريق الدولة الحديثة. ولا يزال الصراع على الدساتير وعلى قوانين الانتخاب أهم سمات المرحلة الراهنة. كما لا تزال غالبية مؤسسات المجتمع المدني من الفئات القديمة ترتبط بمصالح أشخاصٍ أو أفراد أو طوائف، تنظر إلى السياسة كوسيلة للاستيلاء على السلطة لا بوصفِها فاعلية اجتماعية. وفي ظل ذلك، لن يكون لها دور فعال في خلق حالة وعي قادر على استنهاض الجماهير أو قيادة “الربيع العربي” في المستقبل. ويدل الواقع على الأرض، على أن هناك عوائق أمام انبثاق مجتمع عربي مدني تغييري، أهمها استمرار دور الدين في الحياتين السياسية والمجتمعية، وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، وضعف الثقافة الديمقراطية، وعدم الفصل بين السلطات، والتلاعب بالدستور، وممارسة الضغوط على القضاء والمؤسسات، وانعدام برامج التنمية، وأخيراً وليس آخر التصارع بين الأحزاب والقوى السياسية الذي يثير الشكوك حول الغاية من الربيع العربي.
في لبنان، هناك سوسة الطائفية والمذهبية التي تنخُر بنيانه منذ حوالى القرن، وقد ساد الاعتقاد أن “ثورة الأرز” في العام 2005، التي انبثقت عقب اغتيال الرئيس الحريري، هي أول ربيع عربي، وأن خروج السوري من البلاد سيؤدي إلى ظهورِ مجتمع مدني يسير بلبنان في طريق الدولة الحديثة. لكن في ظلِ الطائفية السياسية والمذهبية والطائفية المجتمعية والعائلية والحزبية والعسكرة، واستدعاء الطوائف الخارج للتدخل في الشأن اللبناني الداخلي، أضحى لبنان عرضة لتضارب المصالح السياسية – الدينية التي تُشكل خطراً كبيراً على السلم الأهلي. وفي ظل الهيمنة الشمولية لحزب الله على الحياتين السياسية والمجتمعية، وفي ظل وجوده كدولة لها جيشها ولها علاقاتها وتحالفاتها ومشاريعها وحروبها الخارجية (سورية)، من المستبعد أن تكون هناك دولة لبنانية حديثة أو حتى ذات سيادة، حتى أنه من المستحيل أن يقومَ مجتمع مدني في ظل الانقسام الماضوي والحالي، فأحزاب لبنان وروابطه واتحاداته النقابية وجمعياته العائلية والرياضية والكشفية معظمها طائفية أو محسوبة على مذاهبها، أو أنها ترتع في حضن القوى الطائفية.
في مصر، لا تزال المادة الثانية من الدستور ومواد أخرى، عقبة في عملية الدمج الاجتماعي بين الأقباط والمسلمين، ويعتزم الإخوان المسلمون، منذ ما قبل “الربيع العربي”، إقامة دولة ومجتمع إسلاميين مغلفين أهدافهم بشعار الإدعاء أنهم يقيمون “دولة مدنيةً ذات مرجعية إسلامية”، أي تماماً كما يفعل حزب الله في لبنان تحت شعار الدعوة إلى إقامة “دولة مدنية مؤمنة”. لذا، هناك في مصر صراع حاد بين القوى الإسلامية، إخوان وسلفيون من جهة، وبين الليبراليين والعلمانيين من جهة أخرى، ويتبع كل منهما قوى مدنية واجتماعية. وبدلاً من أن يكونَ هناك مجتمع مدني موحد، هناك شارع مدني منقسم على نفسه، بين قوى ليبرالية وعلمانية تدعي أنها تريد التغيير نحو الديمقراطية والمجتمع المدني الموازي للدولة، وبين شارع مدني لقوى إسلامية تعمل على أسلمة الدولة والمجمتع والثقافة. لقد خابَ أمل الأقباط في مصر بأن يحقق “الربيع العربي” المساواة المجتمعية وحقوق الإنسان السياسية والمدنية على أساس مواطنة مصرية وينهي وضعاً شاذاً منذ الثورة المصرية في العام 1952، وربما قبل ذلك. وما حصل أن التهميش والعنف لم يشمل الأقباط وحدهم، بل القوى الليبرالية العلمانية كذلك ذات المصلحة في التغيير نحو مجتمع مدني ودولة حديثة. حتى داخل القوى الليبرالية والعلمانية هذه، هناك اتجاهات متناقضة بين القوى الشبابية التي تصدرت الثورة من دون قيادة أو زعامة، وبين القوى “القديمة” التي ركبت موجة “الربيع العربي”. ولا يمكن أن تقام دولة حديثة في مصر ظل مجتمعين مدنيين متناقضين في الأهداف والمصالح ويتصارعان، يجري التعبير عنهما في الصدام بين هويتين إسلامية ووطنية. إن إعادة المحاكمات لأفراد من النظام السابق، والجدل الصاخب الذي صاحب “الإعلان الدستوري” لرئيس الجمهورية المصرية محمد مرسي، وضرب الحصار على المحكمة الدستورية العليا من قبل جماعة الإخوان المسلمين لمنع القضاء من النطق ضد شرعية “الإعلان الدستوري”، وعدم انصياع رئيس الدولة لقرار محكمة استئناف القاهرة القاضي بإلغاء قراره الجمهوري بتعيين المستشار طلعت حرب نائباً عاماً، تطرح بقوة مسألة استقلال القضاء المصري أو قدرته على تنفيذ قراراته. وهذه الأمور مجتمعة، وما يُحكى عن “أخونة” إدارات الدولة والمؤسسات، يدل على أن الإخوان المسلمين يخططون لأن يحكموا مصر لمئة سنة القادمة، وأن يطبعوا البلاد بمبادئهم وأفكارهم وتقليص أدوار غيرهم أو إلغائها.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الانتخابات المصريةِ الأخيرة دلت أن التيار المدني المصري كان ضعيف التأثير في الأرياف، فالناس هناك لا يزالون يدورون إلى حد كبير في فلك الإسلام السياسي، الأمر الذي رجحَ كفة التيارات الإسلامية في انتخابات ما بعد الثورة. إن تقصير المجتمعِ المدني من ناحية، والأمية والجهل والفقرَ والبطالة وغياب الوعي الثقافي والتعصب الديني، والرغبة في إعطاء الإسلاميين الفرصة ليحكموا، بعدما فشلت التجارب القومية والإشتراكية في حلّ المشكلات الاجتماعية والسياسية وقضية فلسطين، واستباحة البلدان العربية والإسلامية من قبل الغرب منذ العام 2001 تحديداً، في ظل أنظمة دكتاتورية، أدت جميعها إلى ترجيح كفة جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين الذين عرفوا كيف يستقطبون الشارع بالمساعدات والخدمات والشعارات.
أخيراً، الثورات هي مخاض طويل وشاق يتطلب تضافر جهود المجتمع المدني. صحيح أن شبان مصر وشاباتِها أصبحوا أكثر جرأة للدفاع عن مطالبهم وبالتالي النزول إلى الشارع، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: أي تغيير تحقق حتى الآن: هل استبدلنا بحزب العدالة والتنمية الحزب الوطني، وهل وضع مصر الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي أفضل حالاً من السابق، وهي تستجدي الإعانات والقروض؟ وهل تقلص التناقض بين المجتمع المدني والدولة أم ازداد؟ هل توقف كم الأفواه وتطويع الإعلام؟ وهل نقلت الشرطة المصرية ولاءها من نظامٍ إلى آخر؟ وهل القضاء المصري اليوم أكثر استقلالية من السابق؟ ألم يرفض الرئيس مرسي تنفيذ قرار محكمة استئناف القاهرة بإعادة النائب العام عبد المجيد محمود إلى منصبه، بعدما سبق للرئيس أن عزله في تشرين الثاني 2012 وعين طلعت إبراهيم نائباً بدلاً منه؟ ألم يتعزز وضع الدين في الحياتين السياسية والمجتمعية عن السابق؟ ألا يزال الأقباط خائفين على وضعهم وحضورهم ودورهم، ومن المادتين الثانية والعاشرة من الدستور، ومن شارع إسلامي متعصب ودولة تزيد من تهميشهم؟ وفي ضوءِ الانقسام الراهن بين مكونات المجتمع المدني، وهيمنة الحزب الواحد، على الرغم من صناديق الاقتراع، فإن أكثر ما نخشاه هو أن يتحول حزب العدالة والتنمية إلى “كوبي” عن الحزب الوطني، وأن يصب.ح محمد مرسي مباركاً آخر أو سادات، ولا يبقى من ثورة الربيع العربي سوى ذكرى شهدائها وشبابها وشاباتها الذين تقدموا الجميع لإسقاط نظام قاهر
*********
(*) محاضرة ألقاها د. عبد الرؤوف سنو في ورشة عمل: “بناء الدولة الحديثة في إطار الحراك العربي (الرهانات والتحديات)”، مؤتمر الكنيسة الإنجيلية المصرية (بيروت 10 – 11 مايو 2013).
كلام الصور
1- الربيع العربي
2- ثورة الأرز في لبنان
3- المواجهات في مصر