(من كتاب “أفكار خارج العزلة”) يصدر عام 2022
كنت أكره الخريف، وأحتقر ثيابه الرثّة، وجسده الملطّخ بالوحول. وكلّما التقيت به يعْبر عند الجسر القديم، بين أشجار الحور والصفصاف، انتابتني رعشة، وتخيّلت نفسي ورقة صفراء تطير في الرياح، وتستقرّ في الوادي العميق.
ولاحظ الخريف أنّني أتجنّبه، وأشيح بوجهي عنه، فخاطبني قائلاً: مرحى يا أخي. هل آذيتك في شيء؟
أجبته من غير أن أنظر إليه: لم تؤذني، لكنّك تقسو على الطبيعة وتعرّيها، وتنشر فيها الفوضى والدمار، ولا ترأف بالحقول والمروج، فكأنّك ملك شرّير، كلّما وطئت قدماه على الثرى، تحوّل الزرع إلى يباس، والجمال إلى قبح.
هزّ الخريف برأسه متأسّفاً، وقال: أخطأتَ في شأني أيّها الفتى، فإنّني أفْضلُ من الشتاء، وأرحم منه بكثير. وأظنّ أنّك تعرف هذا الجبّار الذي ينشر الويل والأعاصير، ويقصف بالرعود… ولكنّه مثلي محبّ لكم، ويضحّي من أجلكم.
قلت بنبرة عصبيّة: أنتما من أب واحد وأمّ واحدة. فأنت الأخ الأصغر وهو الأخ الأكبر. أنت طريّ العود وهو أكثر منك غضباً وشراسة… وفي اعتقادي أنّك لا تختلف عنه إلاّ في القليل.
قال الخريف: أنتم أعداء أنفسكم أيّها الناس، لأنّكم ترون في طباعي الشرّ ولا ترون الخير. فالشتاء نفسه فيه خير لكم… بل هو صديق متنكّر… ولا يحبّ أن يتحدّث عن فضله عليكم… ويضحكني أنّكم تخافون منه وتهربون، وهو رفيق بكم، ولولاه لمتّم عطشاً وجوعاً… وكم أنتم مساكين لأنّكم تنظرون بعين واحدة، وبعضكم ينظر وليس له عينان، ويسمع وليس له أذنان! وكم سرتم في الطريق مع أعداء نجحوا في التمثيل عليكم، وكم تخلّيتم عن أصدقاء طيّبين، لأنّكم خدعتم ذواتكم، وصدّقتم خداعكم! فليس كلّ مَن يسير إلى جانبكم هو فرحكم، وليس كلّ مَن تهْجرونه وأنتم ناقمون عليه، هو حزنكم وتعاستكم. وإنّي أرى ضعف حيلتكم عندما يأتي الصيف، فترحّبون به، وتمدحونه، وهو ماكر ومضلّل، يفتح يديه لتأكلوا من ثمار ليست له، ويغدق عليكم بيادر قمح ما كانت مرّة من تعبه. كما أنّكم تغتبطون بالربيع مثلما تغتبطون بالمرأة التي ترتدي ثياباً ملوّنة، ويفوح عطرها في الدروب، أمّا تلك التي تفترش الرصيف، وتغطّي جسدها النحيل بثياب ممزّقة، وتشحذ الرغيف لأنّها محتاجة، فتهزأون بها، وتطردونها، وتهينونها… فهل سألتم المرأة الجميلة عن بشاعة قلبها، وانحطاط روحها؟ وهل سألتم المرأة المحتاجة عن نقاء سريرتها، وقيمة الشرف التي تتحلّى بها؟
كنت أصغي إلى الخريف وهو يتكلّم ويفصح عن مكنونات صدره، فكأنّه انتظر عصوراً، لكي يعبّر عمّا في قلبه من خيبة وإحباط. ثمّ قال: كان في مدينة ملك شابّ أراد والده أن يزوّجه، فجمع له ملكات الجمال من كلّ الأمم المجاورة… وعندما تكلّمنَ، التفت الملك الشابّ إلى أبيه، وسأله بمرارة: أليس في الممالك التي حولنا امرأة بشعة؟
لجأ الخريف، أثناء حديثه معي، إلى الرموز الصعبة، وهذا ليس غريباً، فقد قرأتُ عنه كثيراً، وعلمت أنّه مجموعة من الرموز والإشارات المعبّرة. وبعد أن أخذ نفساً طويلاً سمعت صداه في الوهاد والمنحدرات، قال لي بصوت متهدّج: صدقاً أقول لك أيّها الرفيق، لقد رأيت في عمري الطويل بساتين غنيّة بالفاكهة، وأخرى مهملة، يكسوها الشوك والعوسج، ورأيت الناس يأخذون من الحقول التي فيها فاكهة. فليس عدلاً أن تدّعي شجرة مثقلة بالثمار أنّها تعطي، بل العدل أن تقول إنّ الناس هم الذين يأخذون منها، فالعطاء والأخذ ليسا واحداً، بل يسير كلّ منهما في اتجاه مختلف عن الآخر. ولو كان العابرون في الحقل لا يطلبون من الشجرة أن تعطيهم، لماتت الحبّات على أغصانها، واهترأت من الإهمال والنسيان.
مضى الخريف مسرعاً، لأنّه كان على موعد مع الغيم والضباب. وعدت إلى منزلي، فحطّمت مظلّتي، وبدأت أعشق السير تحت المطر، ولا أخشى من البلل، وأصبحتُ كلّما عصفت الريح، أبتسمُ لها، وأدعوها إلى منزلي لكي ترتاح قليلاً، قبل أن تتابع سفرها إلى البعيد… ومنذ تلك الساعة أخبّئ الرعود والبروق في كتابي، وكلّما أعطي منها للآخرين، أخاف أن أقول إنّني أعطي، بل أقول دائماً إنّ الذين يقرأون في كتابي هم الذين يأخذون.
***
(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني