شِرْوالُ «بُو نَجِيب»…

 

(ما مِنْ رَجُلٍ يَدُكُّ قِبابَ الأَمسِ ويَنجُو مِنْ حِجارَتِها المُتَساقِطَة)

          (جُبران خَلِيل جُبران، «يَسُوعُ بنُ الإِنسان»، ص 83)

 

إِتَّكَأ فارِس على وِسادَةِ المَقعَدِ في مَصطَبَةِ دارِهِ، وقَطَراتُ العَرَقِ تَلتَمِعُ على جَبِينِهِ المُتَغَضِّن.

جاءَتهُ زَوجَتُهُ هِيلانَة بِإِبرِيقِ الماءِ الفَخَّارِيِّ المُتَرَشِّح. شَرِبَ حَتَّى ارتَوَى، تَنَهَّدَ طَوِيلًا، وقال: لا أَتَلَذَّذُ بِالعَمَلِ والتَّعَبِ إِلَّا في «جِوار العَيْن». الله ما أَجمَلَها يا هيلانة. أَلَيسَت أَفضَلَ قِطْعَةٍ في «دار الكَرْم»؟!

كُلَّما احتَجْتُ إِلى فَترَةِ راحَةٍ، أَجلِسُ على الصَّخرَةِ المُلاصِقَةِ بِالعَيْنِ، أَشرَبُ العَذْبَ البارِدَ وأَسرَحُ في شِبْهِ غَفْوَةٍ مع حَفِيفِ النَّسِيمِ في الوَزَّالِ والأَعشابِ، حامِلًا تَغرِيداتِ العَصافِيرِ في الدَّوحَةِ القَرِيبَة. هي جَنَّتِي هُناكَ، فَشُكرًا لِلمُعْطِي الكَرِيم!

وهل نَنسَى «بُو جَمِيل» يَومَ عَرَضَ عَلَيَّ أَن يَشتَرِيها بِالثَّمَنِ الَّذِي أُرِيدُ، لِأَنَّهُ يَملِكُ أَرضًا تُحاذِيها ولكِنَّها لا تَتَّصِلُ بِالعَينِ، وهو – كَما تَعلَمِينَ – مُقتَدِرٌ مالِيًّا. وبَعدَ رَفضِي لِعَرضِهِ قال: صَدِّقنِي، لا أُرِيدُكَ أَن تَبِيعَ، فَأَنتَ نِعْمَ الجارُ، ولكِنْ إِنْ بَدَّلتَ رَأيَكَ، فَأَنا دائِمًا رَهْنُ أَوامِرِك.

هي مِنْ أَرضِ فارِسَ الأَثِيرَةُ، تَحتَوِي الكَثِيرَ مِن شَجَرِ الزَّيتُونِ، وبَعضَ شَجَراتِ التِّينِ على أَنواعِهِ، وكَرْمًا عَرَشَهُ، فِيهِ مِنَ الأَعنابِ ما تَجُودُ بِما لَذَّ وطاب. وهُناكَ شَجَرَتا سَفَرْجَلٍ، وشَجَرَةُ زُعْرُورٍ في الحافَّةِ المُرتَفِعَةِ الَّتِي تَحضُنُ في أَسفَلِها العَيْنَ السَّخِيَّةَ الَّتِي تَستَقِي مِنها القَريَةُ، ماءَها البارِدَ السَّلسَبِيل.

***

وُلِدَ فارِسُ سَنَةَ 1890، في «دار الكَرْم»، وَحِيدًا لِأَبَوَيهِ مع أُختَينِ أَصغَرَ مِنهُ سِنًّا. مُنذُ صِغَرِهِ كان عَوْنًا لِأَبِيهِ في العِنايَةِ بِأَرضِهِمِ المُتَوَزَّعَةِ في أَنحاءِ القَريَةِ، المَغرُوسَةِ زَيتُونًا، والَّتِي كانت مَورِدَهُم الوَحِيد. عِندَما بَلَغَ العِشرِينَ مِن عُمرِهِ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، فَباتَ عِبْءُ العائِلَةِ كُلُّهُ على عاتِقِهِ، فَما خَيَّبَ الآمالَ، بَل أَظهَرَ رُجُولِيَّةً نادِرَة. شُجاعٌ حَدَّ التَّهَوُّرِ، قَوِيُّ البِنْيَةِ، كَرِيمُ النَّفسِ، لا يَتَوانَى عن إِعانَةٍ، ولا يُسِيءُ لِأَحَدٍ على أَنَّهُ يَأْبَى الضَّيْمَ، مَحبُوبٌ مِن أَهلِ القَريَةِ على اختِلافاتِهِمِ المَعهُودَةِ حَولَ تَعْيِينِ ناطُورٍ لِلأَرزاقِ ومُختارٍ، وغَيرِها. مُستَقِيمٌ، خَفِيفُ الظِّلِّ، فارِسٌ حَتَّى مُطابَقَةِ الاسمِ المُسَمَّى.

يتمسك بِشِروالِهِ وطَربُوشِهِ وسُتْرَةٍ يُسَمُّونَها الكُبْرانَ، رافِضًا التَّصامِيمَ الأَجنَبِيَّةَ الَّتِي بَدَأَت بِالانتِشارِ مع بِدايَةِ القَرنِ العِشرِين. شارِبُهُ مَعقُوفٌ أَبَدًا، وهو لَهُ مِن عَلائِمِ الرُّجُولَة. تَزَوَّجَ في الخامِسَةِ والعِشرِينَ مِن قَرِيبَتِهِ هِيلانَة، ورُزِقا، في العامِ 1918، بَعدَ ثَلاثِ سَنَواتٍ مِنَ الزَّواجِ، صَبِيًّا سَمَّياهُ نَجِيْبًا على اسمِ جَدِّهِ «بُو فارِس»، ثُمَّ لَم يُرزَقا بِغَيرِهِ، فَبَقِيَ أَمَلَ العائِلَةِ ومَحَطَّ اهتِمامِها الدَّائِم.

حَياةُ فارِس مَجبُولَةٌ بِأَرضِهِ، مَعْرُوكَةٌ بِعَرَقِهِ، يُقَسِّمُها أَيَّامًا فَيُخَصِّصُها لِقِطَعِها المُنتَثِرَةِ في الجِهات. يَنزَعُ أَعشابَها الضَّارَّةَ، يُشَذِّبُ يَبِيسَها، ويَحمِلُ الماءَ لِصَغِيرِها المُتَعَثِّرِ، ويَعتَنِي بِها كَأَبٍ مع أَولادِه.

وكانت أَحَبُّ أَيَّامِهِ لِقَلبِهِ الَّتِي يَقضِيها في «جِوار العَيْن». يَتَسَطَّحُ على تُرابِها، يُحصِي أَغصانَها، ويَتَرَقَّبُ ثِمارَها الَّتِي يَعرِفُها بِمَواقِعِها، ويَختِمُ نَهارَهُ بِجَمْعِ سَلَّةٍ مِمَّا تَوَفَّرَ فِيها يَحمِلُها في عَودَتِهِ إِلى البَيتِ، فَرِحًا، مَزْهُوًّا، لَكَأَنَّهُ يَعُودُ بِواحِدٍ مِن كُنُوزِ النَّبِيِّ سُلَيمان…

 ***

مِنَ السَّادِسَةِ مِن عُمرِهِ وحَتَّى التَّاسِعَةِ، وأُسوَةً بِأَولادِ قَريَتِهِ جَمِيعًا، تَلمَذَ نَجِيب عِندَ المُعَلِّمِ يَعقُوب الَّذي كان إِمامًا لِدارِ الكَرْمِ في شُؤُونِ الحَرفِ والكِتابَةِ كافَّة. كان المُعَلِّمُ يُدَرِّسُ الأَطفالَ مَبادِئَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، مع نَزْرٍ مِن عِلْمِ الحِساب.  أَظهَرَ الصَّبِيُّ بَراعَةً بَيِّنَةً في العَرَبِيَّةِ، استَحَقَّت ثَناءَ مُعَلِّمِهِ المُتَكَرِّرَ، والإِشادَةَ بِهِ كُلَّما اجتَمَعَ بِأَهلِ القَريَةِ في المُناسَباتِ العامَّةِ والخاصَّة؛ ولكِنَّهُ بَقِيَ مُتَعَثِّرًا في شُؤُونِ الحِسابِ وشُجُونِه.

المُعَلِّمُ بَقِيَ عازِبًا، مُتَنَسِّكًا لِكُتُبِهِ، يَعِيشُ وَحِيدًا، وبَيتُهُ مُنعَزِلٌ في طَرَفِ القَريَة. كان فارِس يُحِبُّهُ ويَحتَرِمُهُ، لِوَقارِهِ، وإِخلاصِهِ، وتَفانِيهِ في تَعلِيمِ النَّشْأِ في القَريَةِ، مُكتَفِيًا بِالقَلِيلِ مِنَ الأَجْر. وكانَ فارِس يَحمِلُ إِلَيهِ، في المَواسِمِ، ما تَيَسَّرَ مِن ثِمارِ أَرضِهِ، فَالمُعَلِّمُ لا يَملِكُ إِلَّا الزَّيتُون.

كان فارِس فَخُورًا بِوَحِيدِهِ، فَعَقَدَ العَزمَ على إِيصالِهِ إِلَى دَرَجاتٍ عُلْيا في التَّعَلُّمِ مَهما كانت الأَعباءُ ثَقِيلَة.

إِنتَقَلَ الوَلَدُ المُدَلَّلُ، بَعدَ بُلُوغِهِ العاشِرَةَ، في العامِ 1928، إِلى «مَدرَسَةِ الجَمعِيَّة» في جَمْلُون، والَّتِي أُسِّسَت بِاسمِ «المَدرَسَة الرُّوسِيَّة القَيصَرِيَّة» في العام 1897. استَمَرَّ على تَفَوُّقِهِ في اللَّغَةِ العَرَبِيَّةِ، مع ضَعْفٍ في عِلْمِ الحِساب. وتَوَّجَ مَرحَلَتَهُ الابتِدائِيَّةَ، بَعدَ خَمْسِ سَنَواتٍ، بِشَهادَةِ «السّرتِفِيكا» الرَّسمِيَّةِ، فَكانَ الحَدَثُ جَلَلًا في المَنزِلِ، وَوُضِعَت شَهادَتُهُ «الجَلِيلَةُ» في إِطارٍ مُذَهَّبٍ، وعَلَّقَها «بُو نَجِيب»، فَخُورًا مُعتَزًّا، على حائِطِ البَهْوِ إِلى جانِبِ صُورَةِ أَبِيهِ، بِشارِبِهِ المُنبَسِطِ كَجَناحَي العِقاب، وطَبَرِهِ(1) الشَّاهِدِ على زَمانٍ غَبَر.

تابَعَ نَجِيب انتِصاراتِهِ الدِّراسِيَّةَ فَنالَ، بَعدَ أَربَعِ سَنَواتٍ، في العامِ 1937، الشَّهادَةَ التَّكمِيلِيَّةَ الرَّسمِيَّةَ «البرِيفه»، ولكِنَّ أَلَقَ «السّرتِفِيكا» لَم يَخْبُ وبَقِيَت مُتَرَبِّعَةً على عَرْشِ فَخارِها في بَهْوِ المَنزِل.

وبَعدَ تَفكِيرٍ عَمِيقٍ، واستِشاراتِ أَصدِقاءٍ وأَقارِبَ، استُشِيرَ الــ «البُوْنا حَنَّا» فَأَفتَى في المَسأَلَةِ بِإِرسالِ نَجِيب إِلى «مَدرَسَةِ مار الياس» في الأَسْكِلَةِ – المِيناءِ – طَرابُلُس، وذلك لِصَداقَتِهِ مع كاهِنٍ مَسؤُولٍ فِيها.

ولِلأَمرِ تَمَّ استِئْجارُ غُرفَةٍ في مَنزِلِ أَرمَلَةٍ عَجُوزٍ على مَسافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ المَدرَسَة.

لازَمَهُ النَّجاحُ، ونَمَت مُكْنَتُهُ في العَرَبِيَّةِ، فَباتَ مَرجِعًا لِرِفاقِهِ، وخَطِيبًا في احتِفالاتِهِم المَدرَسِيَّة.

إِزدادَتِ المَصارِيفُ على «بُو نَجِيب»، واستَطاعَ، بِشِقِّ النَّفسِ، أَن يَكفِيَ ابنَهُ حَتَّى أَنهَى مَرحَلَتَهُ الثَّانَوِيَّة بِنَجاحٍ مُطَّرِد!

***

«وَلَمَّا أَصبَحَ الصَّباح وأَضاءَ بِنُورِهِ وَلاح»(2)، حَقَّ ما كانَ مُنتَظَرًا، وباتَ أمام «بُو نَجِيب» طَرِيقانِ لا ثالِثَ لَهُما: إِمَّا كَفُّ ابنِهِ عَن مُتابَعَةِ الدِّراسَةِ، وإِمَّا إِلحاقُهُ بِجامِعَةٍ في بَيرُوتَ مع ما يَقتَضِي هذا مِن تَموِيلٍ يَفُوقُ قُدرَةَ العائِلَةِ، وأَرزاقُهُم تَنُوءُ بِهذا الحِمْل.

بَعدَ شَهرٍ عَسِيرٍ مِنَ التَّفكِيرِ المُضنِي، وَ «ضَرْبِ الأَخماسِ بِالأَسداسِ»(3)، ولا سِيَّما أَنَّ الوَقتَ يَدْهَمُ، وعلى الوَلَدِ تَدبِيرُ أَمرِ السَّنَةِ القادِمَةِ، إِنْ عُزِمَ على الخِيارِ الثَّانِي.

أَقنَعَ «بُو نَجِيب» نَفسَهُ بِإِرسالِ ابنِهِ إِلى الجامِعَةِ، مُستَعِينًا بِمُدَّخَراتِ العائِلَةِ طَوالَ السِّنِينَ، وبِالعَمَلِ في تَنقِيَةِ أَشجارِ مَنْ يَرغَبُ مِن أَهلِ القَريَةِ وتَشذِيبِها لِقاءَ أَجْرٍ، وكَم سَبَقَ أَن سُئِلَ بِهذا، لِخِبرَتِهِ وبَراعَتِهِ في تَصرِيفِ أَعمالِ الأَرضِ وأَشجارِها، والَّذي كانَ يَرفُضُهُ بِابتِسامَةِ الغَنِيِّ عَنه. سَيَتَراجَعُ عن عُنفُوانِهِ وتَعالِيهِ في سَبِيلِ ابنِهِ فِلْذَةِ كَبِدِه.

ولِدَعمِ قَرارِهِ الَّذِي تَرَسَّخَ فِيهِ، واستِئْناسًا بِنُصْحِ خَبِيرٍ حَصِيفٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، قامَ بِزِيارَةِ المُعَلِّمِ يَعقُوب، مُطَّلِعًا أَحوالَهُ وصِحَّتَهُ وقد بَلَغَ مِنَ العُمرِ عِتِيًّا، ومُتَزَوِّدًا بِإِرشادِه.

قالَ المُعَلِّمُ الوَقُور: يا صَدِيقِي، المالُ وُجِدَ لِخِدمَتِنا، وكُلُّ تَعَبٍ يَهُونُ أَمامَ الغايَةِ السَّامِيَةِ، والأَرزاقُ تَنتَقِلُ بَينَ بَنِي البَشَرِ، وخَيْرُ ما تُوَرِّثُ ابنَكَ هو العِلمُ، الكَفِيلُ بِأَن يَأتِيَ بِالمالِ والأَرزاقِ، وهو الباقِي لا تَقهَرُهُ الظُّرُوفُ، ولا تُنقِصُهُ العوادِي. حَتَّى لَو أُجبِرْتَ على بَيْعِ قِطْعَةِ أَرضٍ أَو أَكثَرَ فَلا تَتَلَكَّأَنَّ، فَــ «مَـنْ يَعـرِفِ المَطلُـوبَ يَحقِرْ ما بَـذَلْ»(4)؟!

عادَ فارِسُ إِلَى بَيتِهِ وقد تَوَطَّدَ تَصمِيمُهُ، وانقَشَعَت بَعضُ الوَساوِس الَّتِي كانَت تُراوِدُه. وأَبلَغَ ابنَهُ القَرارَ، وطَلَبَ إِلَيهِ أَن يَتَكَفَّلَ بِمَجْرَياتِ الأُمُورِ مِن تَسجِيلٍ وسَكَنٍ وغَيرِها، لِأَنَّها تَخرُجُ عَن دائِرَةِ مَعرِفَتِه. وسَأَلَ ابنَهُ، راجِيًا، أَنْ يَزُورَ مُعَلِّمَهُ يَعقُوب الَّذِي باتَ قَعِيدَ المَنزِلِ، وفي أَرذَلِ العُمرِ، وهو سَيَمُدُّهُ بِتَوجِيهِهِ ومَوعِظَتِهِ وحِكمَتِه. لَم يُجِبِ الشَّابُّ، ولَم يَستَجِبْ لِرَغبَةِ أَبِيهِ في الأَيَّامِ اللَّاحِقَةِ، فَكانَت غُصَّةٌ في نَفْسِ الأَبِ الَّذِي كَظَمَ غَيظَهُ على مَضَض!

***

إِلتَحَقَ نجيب بِالجامِعَةِ اليَسُوعِيَّة، مَعهَدِ الآدابِ الشَّرقيَّةِ، في تشرينَ مِن العامِ 1941، وقد ساعَدَهُ في إِتمامِ مُستَلزَماتِ التَّسجِيلِ والدُّخُولِ أُستاذُهُ في «مَدرَسَةِ مار الياس».

إِستَأجَرَ غُرفَةً بِالاشتِراكِ مع طالِبٍ مِنَ الجَنُوبِ تَعَرَّفَ إِلَيهِ خِلالَ التَّسجِيلِ، كانَ يُفَتِّشُ عَن طَرِيقَةٍ لِلسَّكَن.

كانَت الدِّراسَةُ يَسِيرَةً عَلَيهِ، ونَجاحاتُهُ تَتَكَرَّرُ، وعَلاماتُهُ في الامتِحاناتِ في أَعلَى الدَّرَجاتِ، حَتَّى باتَ عَلامَةً فارِقَةً بَينَ رِفاقِه. وكانَ يَعُودُ إِلى القَريَةِ كُلَّ أُسبُوعَينِ، لِرُؤْيَةِ الأَهلِ، والتَّزَوُّدِ بِالمَآكِلِ تَوفِيرًا لِلمَصرُوف.

مَرَّت سَنَتانِ على وُجُودِ نَجِيب في الجامِعَةِ والأُمُورُ مع الوالِدِ تَسِيرُ على ما يُرامُ، فَالمَواسِمُ جَيِّدَةٌ، وهو يَعمَلُ في تَنقِيَةِ الأَشجارِ، وأَعمالِ الزِّراعَةِ، حَتَّى باتَ الجَمِيعُ يَتَسابَقُونَ على أَخْذِ عَهْدٍ مِنهُ بِالعَمَلِ لَدَيهِم.

بَدَأَ الأَبُ يَشعُرُ بِالتَّعَبِ الزَّائِدِ في العَمَلِ، وفي تَسَلُّقِ الشَّجَرِ والسَّلالِمِ الَّتِي لا غِنًى عَنها في عَمَلِه. كانَ يَصبِرُ ويَتَجَلَّدُ صامِتًا، مُتَأَلِّمًا، فَيَعُودُ إِلى البَيتِ، في نِهايَةِ يَومِ العَمَلِ، مُنْهَكًا يَكادُ لا يَتَقَبَّلُ الطَّعام. حَثَّتهُ زَوجَتُهُ على استِشارَةِ طَبِيبٍ في جَمْلُون. فَعَلَ فَلَم يَجِدْ نَفْعًا، وكانَت حالُهُ تَسُوءُ مع الإِجهادِ الَّذِي يَتَكَبَّدُهُ، فَأُشِيرَ عَلَيهِ بِطَبِيبٍ شَهِيرٍ في طَرابُلُسَ يَملِكُ مُستَشْفًى. فَأَتَت نَتِيجَةُ فُحُوصاتِهِ أَنَّهُ مُصابٌ بِمَرَضٍ يُسَمَّى «التِهابُ العَضَلاتِ» يُؤَدِّي إِلَى صُعُوبَةٍ في القِيامِ والقُعُودِ وحَمْلِ الأَشياءِ وتَسَلُّقِ السَّلالِم.

لم تُجْدِ الأَدوِيَةُ طائِلًا، بَل تَفاقَمَ الوَضْعُ بِإِصابَتِهِ بِسُعالٍ جافٍّ مُتَرافِقٍ مع ضِيْقٍ في النَّفَسِ بَينَ حِينٍ وآخَرَ، ما أَجبَرَهُ على تَركِ عَمَلِهِ، وحَتَّى بِالاستِعانَةِ بِغَيرِهِ لِلعِنايَةِ بِأَرضِهِ هو.

بَدَأَتِ الضَّائِقَةُ المالِيَّةُ تَضغَطُ على المَنزِلِ بِشَحِّ المَوارِدِ، وما انتَهَتِ السَّنَةُ الجامِعِيَّةُ الثَّالِثَةُ إِلَّا وكانَ لا بُدَّ مِنَ السَّيْرِ في واحِدٍ مِن خِيارَينِ أَيسَرُهُما مُرّ. إِمَّا أَن يَتَوَقَّفَ الابْنُ عن الدِّراسَةِ في شَوْطِها الأَخِيرِ، وإِمَّا أَنْ يَبِيعَ «بُو نَجِيب» مِنْ أَرضِهِ ما يَلزَم. واختارَ الثَّانِي وكَلَّفَ أَخا زَوجَتِهِ أَن يَتَوَلَّى بَيْعَ أَيِّ قِطْعَةٍ غَيرِ «جوارِ العَيْن» طَبْعًا.

باءَت جُهُودُ الرَّجُلِ بِالفَشَلِ، وجاءَ يَومًا لِيُخبِرَ قَرِيبَهُ، كاسِفًا، أَنَّهُ لَم يَجِدْ مُشتَرِيًا إِلَّا «بُو جَمِيل»، وقد اشتَرَطَ أَنْ تَكُونَ القِطعَةُ هي «جِوار العَيْن»، فَلَيسَ لَهُ مَصلَحَةٌ في غَيرِها.

نَزَلَ الخَبَرُ على فارِس كَالصَّاعِقَةِ، فَعَيَّ في كَلامِهِ، وضاقَ نَفَسُهُ، فَخَشِيَت زَوجَتُهُ عَلَيهِ وطَلَبَت إِلى أَخِيها أَنْ يُؤَجِّلَ القَرارَ إِلى الغَد.

بَعدَ تَفكِيرٍ طَوِيلٍ، وإِحباطٍ أَطوَلَ، ويَأْسٍ مِن غَدٍ هذهِ أَمائِرُهُ، وافَقَ «بُو نَجِيب»، وتَمَّتِ الصَّفْقَةُ، فَدَرَّت مالًا وَفِيرًا، وتَرَكَت في قَلبِ الشَّيْخِ المَقهُورِ جُرْحًا قد لا يَلتَئِمُ على الأَيَّام…

 ***

تَخَرَّجَ نَجِيبُ مِنَ الجامِعَةِ، عامَ 1945، بِدَرَجَةِ مُمتازٍ، فَغَمَرَتِ الفَرحَةُ البَيتَ، وتَقاطَرَ أَهلُ القَريَةِ مُقَدِّمِينَ التَّهانِئَ، ومُظهِرِينَ اعتِزازَهُم بِابْنِ قَريَتِهِمِ المُجَلِّي.

في صَباحِ اليَومِ التَّالِي طَلَبَ الأَبُ إِلى ابنِهِ أَنْ يَزُورَ مُعَلِّمَهُ القَدِيمَ يَعقُوب، المُلازِمَ فِراشَهُ مِنْ ثِقَلِ العُمرِ، فهو يَسأَلُ دائِمًا عَنكَ، وسَيَفرَحُ بِكَ كَثِيرًا لِأَنَّهُ يُحِبُّكَ بِصِدْق. فَوَعَدَهُ خَيْرًا، وكانَ «أَمْطَلَ مِنْ عُرْقُوب»(5). وماتَ المُعَلِّمُ بَعدَ أَيَّامٍ، مِن غَيرِ أَنْ يَرِفَّ لِــ «الأُستاذِ الكَبِيرِ»، المُتَخَرِّجِ مِنَ الجامِعَةِ، جَفْنٌ، ولكِنْ… مَعَ اشمِئْزازٍ بَيِّنٍ في مَلامِحِ الأَبِ مِن تَصَرُّفِ ابنِهِ العاقّ.

«راحِت السَّكْرَه وإِجِتْ الفِكْرَه»، وبَدَأَ نَجِيبُ يَتَفَكَّرُ في المُستَقبَلِ، فَالشَّهادَةُ يَجِبُ تَوظِيفُها… ولكِنْ أَين؟!

وبَعدَ أَيَّامٍ مِن إِعمالِ الفِكْرِ، لَمَحَ بَصِيصًا مِن نُوْرٍ، فَشَدَّ لِلأَمْرِ حِزامَهُ، ونَزَلَ، في اليَومِ التَّالِي، إِلى مَدرَسَتِهِ «مار الياس» السَّالِفَةِ الذِّكْر. لَم يَكُن هُناكَ طُلَّابٌ فَالعامُ الدِّراسِيُّ انتَهَى، وَوَجَدَ مُدِيرَهُ القَدِيمَ في مَكتَبِهِ، فَجَلَسَ يُخبِرُهُ عَمَّا فَعَلَ، وأَينَ صارَ، بَعدَ تَرْكِهِ المَدرَسَة. ولَمَّا رَأَى المُدِيرُ شَهادَةَ تِلمِيذِهِ الجامِعِيَّةَ، بِما تَحمِلُ مِن تَنوِيهاتٍ تَتَراوَحُ بَينَ «جَيِّد جِدًّا» وَ «مُمتاز»، قال: ما رَأْيُكَ بِإِعطاءِ بَعضِ ساعاتِ التَّدرِيسِ لَدَينا؟

مَرَّ العامُ الأَوَّلُ عَلَيهِ، مُدَرِّسًا، في مَدرَسَتِهِ القَدِيمَةِ، فَباتَ «الأُستاذ نَجِيب» قِبْلَةَ أَنظارِ الطُّلَّابِ لِعُلُوِّ كَعْبِهِ في تَدرِيسِ الأَدَبِ واللَّغَةِ، وذاعَ صِيتُهُ عَبْرَ المَدِينَةِ أَنَّهُ مِن فَطاحِلِ المُعَلِّمِين. فَزادَ عُجْبًا بِنَفسِهِ، ولَم يَكتَفِ بِالسَّاعاتِ المَحدُودَةِ الَّتِي يُعطِيها، فَتَعاقَدَ مع مَدرَسَةِ «الفرِير» العَرِيقَةِ على عَدَدٍ مُماثِلٍ، فَامتَلَأَ نَهارُهُ، ونَما إِيرادُه.

مِن طُلَّابِهِ في «مار الياس» كانَ «طُونِي باجِي» الَّذي قَضَى مُعظَمَ صِباهُ في دَولَةِ ساحِلِ العاجِ (Côte d’Ivoire) الإفرِيقِيَّةِ، حَيثُ كانَ يَعمَلُ والِدُهُ قَبلَ أَنْ يَعُودَ، مع عائِلَتِهِ، إِلى لُبنانَ بِثَروَةٍ ضَخمَةٍ، ويُؤَسِّسَ شَرِكَةً لِاستِيرادِ الأَخشاب.

كانَت دِرايَةُ طُونِي بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ ضَئِيلَةً، فَطُلِبَ إِلى الأُستاذِ نَجِيب، بِنَصِيحَةٍ مِن مُدِيرِ المَدرَسَةِ إِلى الأَهلِ، أَنْ يُعطِيَهُ دُرُوسًا خُصُوصِيَّةً.

كان يُوافِيهِ في بَيتِهِ مَرَّتَينِ في الأُسبُوعِ، فَتَعَرَّفَ بِأُختِهِ هُدَى.

مع الأَيَّامِ، بَدَأَت عَلاقَتُهُ بِها تَنمُو وتَتَطَوَّرُ، وتَأخُذُ مَعنًى خاصًّا، وبَدآ بِتَبادُلِ الغَزَلَ استِراقًا.

هي على دَرَجَةٍ وُسْطَى مِنَ الجَمالِ، مُثَقَّفَةٌ إِلى حَدٍّ ما، مُدَلَّلَةٌ مِن أَهلِها، ولَها، إِلى أَخِيها طُونِي، أُختٌ تُدعَى جِيهان تَصغُرُها بِخَمْسِ سَنَوات. كانت هُدَى السَّاعِدَ الأَيمَنَ لِوالِدِها في أَعمالِه. جاوَزَتِ الثَّلاثِينَ مِن عُمرِها، لِذا لاقَت عَلاقَتُها مع هذا الشَّابِّ رِضًى مِن أَهلِها وتَشجِيعًا، فَتَجَرَّأَ الأُستاذُ، يَومًا، ودَعاها إِلى السِّينَما لِحُضُورِ الفِيلمِ الشَّهِيرِ «ذَهَبَ مع الرِّيح Gone with the Wind»، وفي هذِهِ الرِّحلَةِ اتَّفَقا على الزَّواجِ، وعَزَمَت أَنْ تُخبِرَ والِدَيها في الغَد.

وكانت مُبارَكَةٌ مِن أَهلِ هُدَى، فَاتَّفَقَت مع حَبِيبِها على إِقامَةِ العُرْسِ في مُنتَصَفِ حَزِيرانَ مِنَ العامِ 1948 خِلالَ العُطلَةِ المَدرَسِيَّةِ الصَّيفِيَّةِ، وحَجَزا تَذكِرَتَي سَفَرٍ إِلى إِيطالِيا، وغُرفَةً في فُندُقٍ هُناك.

أَخبَرَ نَجِيبُ والِدَيهِ بِكُلِّ ما جَرَى، وأَنَّهُ سَيَأتِي بِهُدَى في نِهايَةِ الأُسبُوعِ القادِمِ لِيَتَعَرَّفا بِها.

وكانَ اللِّقاءُ، فَاستَهَلَّتهُ هِيلانَة بِزُغْرُودَةٍ(6) «مِن كَعْبْ الدِّسْتْ»(7) استَقبَلَتها هُدَى بِنَظرَةٍ مُرَكَّزَةٍ على نَجِيب، مُتَعَجِّبَةً لِما رَأَت وكَأَنَّهُ مَشهَدٌ مِن عالَمٍ آخَر.

عِندَ رُجُوعِهِما إِلى طَرابُلُسَ لاحَظَ نَجِيبُ أَنَّ فَتاتَهُ مُتَعَكِّرَةُ المِزاجِ، مَيَّالَةٌ إِلى الصَّمتِ، وإِنْ جَهَدَتْ أَنْ تُخفِي ذلك.

وحَصَلَت نَكبَةُ الشَّعْبِ الفلَسطِينِيِّ، وبَلَغَت أَوْجَها في التَّهجِيرِ الجَماعِيِّ لَهُم في مُنتَصَفِ أَيَّارَ مِنَ العامِ 1948. فَلَجَأَ الآلافُ مِنهُم إِلى لُبنانَ، ما تَرَكَ أَثَرًا حادًّا وغَلَيانًا في نُفُوسِ الطَّرابُلُسِيِّينَ، واضطِرابًا في الشَّارِعِ، فَارتَأَى والِدُ هُدَى – لِعَلاقاتِهِ مع رِجالِ أَعمالٍ وَوُجَهاءَ مِن فلَسطِينَ وطَرابُلُسَ – إِلغاءَ الاحتِفالِ بِالعُرْسِ، على أَنْ يَتِمَّ الزَّواجُ خِفْيَةً، وأَنْ يُسافِرَ العَرُوسانِ كَما خَطَّطا.

 ***

عادَ العَرُوسانِ مِن شَهْرِ العَسَلِ، وأَخَذَتِ الحَياةُ مَجراها المَعهُودَ، هو في التَّعلِيمِ، وهي في العَمَلِ مع أَبِيها. سَكَنا في شُقَّةٍ فَخمَةٍ مُزَوَّدَةٍ بِأَثاثٍ فاخِرٍ، هي هَدِيَّةُ الزَّواجِ مِن والِدِ هُدَى.

كانت زِياراتُهُما مَعًا لِلقَريَةِ قَلِيلَةً جِدًّا، فَكانَ يَأتِي وَحِيدًا، مُتَحَجِّجًا بِأَنَّها مَأخُوذَةٌ بِعَمَلِها، حَتَّى في نِهايَةِ الأُسبُوعِ، كَثِيرًا ما يَكُونُ لَدَيها مِلَفَّاتٌ عَلَيها إِنهاؤُها. كانَت الأَعذارُ تَنطَلِي على هِيلانَة، فَتَرُوحُ، في جَلَساتِها مع «بُو نَجِيب»، تُبَرِّرُ كِنَّتَها لِما تَرَى مِن انزِعاجٍ مَكتُومٍ لَدَيه. ويَومًا طَفَحَ بِهِ الكَيْلُ فَقال: «خَلّصِينا بَقَى، اللِّي بيُسْلُكْ عا الرّعِيّة، ما بيُسْلُكْ عا الخُورِيّة»(8). وَفَّقَها اللهُ حَيثُ تَكُون. أَمَّا أَنتِ فَلا تَظَلِّي: «طُبّنِي طَبِّتَك العافِيَة»(9)!

ذاتَ يَومٍ خِلالَ عُطلَةِ عِيْدِ الفِصْحِ وَصَلَ نَجِيبُ إِلى بَيتِهِ في القَريَةِ بِصُحبَةِ شاحِنَةٍ صَغِيرَةٍ مُحَمَّلَةٍ بِمَقاعِدَ مُخمَلِيَّةٍ فاخِرَةٍ، ولَوحاتٍ زَيتِيَّةٍ، وطاوِلاتٍ، وأَشياءَ أُخرَى. خَرَجَت أُمُّهُ مَشدُوهَةً تَسأَلُهُ، فَقال: فَرْشُنا باتَ قَدِيمًا بالِيًا، وسَتَرَينَ الفَرْقَ بَعدَ قَلِيل. أَينَ أَبِي؟

قالت: عِندَ «بُو حَنَّا»، كَعادَتِهِ كُلَّ يَومٍ، يَقضِيانِ ساعاتٍ في لُعبَةِ الطَّاوِلَةِ ولُعبَةِ الدَّاما.

راحَ العُمَّالُ يُنزِلُونَ الحُمُولَةَ، ويُعَلِّقُونَ اللَّوحاتِ، بَعدَ إِخراجِ القَدِيمِ، وذلك بِتَوجِيهاتِ نَجِيب، وتَحتَ نَظَرِ الأُمِّ المُنذَهِلَة.

بَعدَ ساعَةٍ عادَ الأَبُ فَوَجَدَ مَنزِلَهُ قَد تَغَيَّرَ، فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا.

إِقتَرَبَ الابنُ مِنهُ، احتَضَنَهُ ضاحِكًا، وقال: «يا بُو نَجِيب، عَفْشَك وَفَّى قُسْطُو لِلعُلَى»(10).

-وأَينَ صُورَةُ أَبِي وطَبَرُه؟

-على حائِطِ غُرفَتِكَ، وهُناكَ أَنسَب.

-أَأَنسَبُ لَكَ أَم لِـ «السِّتّ هُدَى»؟!

-لا يا أَبِي، لا تَظلِمْها، هي لا تَدرِي شَيئًا مِن كُلِّ الَّذي فَعَلتُه.

دَخَلَ الوالِدُ إِلى حُجرَتِهِ وأَغلَقَ الباب.

بَعدَ سَنَةٍ مِن هذهِ الواقِعَةِ، رُزِقَ نَجِيب وهُدَى بِابنَةٍ أَسمَياها نَدَى، شَغَلَتهُما عن كُلِّ تَسلِيَةٍ، ومَلَأَت حَياتَهُما سَعادَة.

قَلَّما كانت هُدَى تَزُورُ القَريَةَ، ونَدَرَ أَن شارَكَت زَوجَها في واجِبٍ اجتِماعِيٍّ مع الأَهالِي. وكَثِيرًا ما كانت تُتَداوَلُ التَّعلِيقاتُ بَينَ النِّساءِ، مِن نَوع: «على شُو شايْفه حالْها. يِقْلَعْ لها ولمِصْرِيَّاتْها».

***

مَرَّتِ الأَيَّامُ، وأَتَى العامُ 1952، وتَقَرَّرَ فِيهِ زَواجُ جِيهان، أُختِ هُدَى، مِن ابْنِ ثَرِيٍّ في المَدِينَة. واتَّفَقَت عائِلَتاهُما على إِقامَةِ عُرْسٍ فَخْمٍ، يَنتَهِي بِوَلِيمَةٍ عامِرَةٍ في أَفخَمِ فُندُقٍ هُناك، بِحُضُورِ شَخصِيَّاتٍ مَدَنِيَّةٍ ودِينِيَّةٍ وسِياسِيِّين.

قالَت هُدَى لِنَجِيب: والِدِي سَيُرسِلُ دَعوَةً خاصَّةً لِوالِدَيكَ، فَلا تَنسَ أَن تَأتِي بِأُمِّكَ هُنا لِتَشتَرِيَ ثَوبًا يَلِيقُ بِالعُرسِ، أَمَّا والِدُكَ، وسَكَتَت بُرْهَةً، ثُمَّ أَكمَلَت: لَيتَهُ يَرضَى بِثَوبٍ إِفرَنْجِيّ. فَكَما تَعلَمُ سَيَضُمُّ العَشاءُ أَكبَرَ شَخصِيَّاتِ البَلَد، وَوُجُودُهُ بِثِيابِهِ الفُولكلُورِيَّةِ سَيُسَبِّبُ إِحراجًا لَنا، ولِوالِدِي.

سَكَتَ نَجِيب، لَم يُعَقِّبْ عَلَيها، ولَم يَنْبُسْ بِبِنْتِ شَفَة!

 ***

حَمَلَ نَجِيب بِطاقَةَ الدَّعوَةِ إِلى العُرْسِ، وجاءَ إِلى أَهلِه. جَلَسَ مَعَهُما، يَحتَسُونَ القَهوَةَ، وراحَ هو يَتَكَلَّمُ في العُرْسِ بِكُلِّ حَماسٍ، ويَصِفُ العَشاءَ المُمَيَّزَ الَّذِي سَيَلِي المَراسِمَ، ويُعَدِّدُ الشَّخصِيَّاتِ الَّتِي سَتَحْضُر. تَحَدَّثَ بِتَفصِيلٍ، وأَسهَبَ في التَّقرِيظِ، وأُمُّهُ مَأخُوذَةٌ بِما يَروِي، أَمَّا أَبُوهُ فَكانَ صامِتًا كَأَبِي الهَوْلِ، كَأَنَّ الأَمرَ لا يَعنِيهِ، أَو كَأَنَّهُ يَستَخِفُّ بِعَقْلِ ابنِهِ «الأُستاذ»!

إِقتَرَبَ نَجِيب مِن والِدِهِ، وَضَعَ ذِراعَهُ على كَتِفِهِ، وقال بِتَحَبُّب: ما رَأْيُ فارِسِنا العَظِيمِ في استِبدالِ شِروالِهِ بِطَقْمٍ إِفرَنجِيٍّ مِنَ الطِّرازِ الأَوَّل؟

وكَأَنَّ أَفعَى لَسَعَتِ الوالِدَ، فَانتَفَضَ واقِفًا، اسوَدَّت غُضُونُ وَجهِهِ، وشَدَّ بِكَفٍّ على قَبْضَةِ اليَدِ الأُخرَى المُطْبَقَةِ، حَدَّقَ بِقَرَفٍ ظاهِرٍ إِلى ابنِهِ، مَزْمُومَ الشَّفَتَينِ على امتِعاضَةٍ تَكادُ تَنفَجِرُ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِـ «تْفُوْه»؛ وأَمسَكَ بِعَصاهُ وخَرَج مِنَ البَيت…

***

(1): أَلطَّبَر: نَوعٌ قَدِيمٌ مِنَ السِّلاحِ يُشبِهُ الفَأْس.

(2): «وَلَمَّا أَصبَحَ الصَّباح وأَضاءَ بِنُورِهِ وَلاح»

      (لازِمَةٌ تَتَكَرَّرُ كَثِيرًا في رِوايَةِ «تَغرِيبَةُ بَنِي هِلال» لِعُمَر أَبِي النَّصْر)

(3): ضَرَبَ أَخْماسًا بِأَسداس (أَو في أَسداس): يَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ في تَفسِيرِ هذا القَول: أَيْ إِنَّ هذا الشَّخْصَ أَعْمَلَ حَواسَّهُ الخَمْس: اللَّمْس، الذَّوْق، الشَّمّ، السَّمْع، البَصَر وَالأَسداس: الجِهاتُ السِّتّ: فَوْق، تَحْت، أَمام، خَلْف، يَمِين، شِمال. وَيُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ في مَن اجتَهَدَ في فَهْمِ أَمْرٍ ما فهو يُعْمِلُ حَواسَّهُ الخَمْسَ في الجِهاتِ السِّتِّ لِفَهْمِ واستِيعابِ هذا الأَمْر.

(4): وَاهْجُـرِ النَّـومَ وَحَصِّلهُ فَمَـنْ        يَعـرِفِ المَطلُـوبَ يَحقِرْ ما بَـذَلْ      (إِبْن الوَردِيّ)

(5): عُرْقُوب: رَجُلٌ في الجاهِلِيَّةِ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ فِي الخُلْفِ بِالوَعْدِ والمَوْعِدِ وعَدَمِ الوَفاء.

(6): زُغْرُودَة: صَوْتٌ خاصٌّ تُصدِرُهُ المَرأَةُ بِتَحرِيكِ لِسانِها بِسُرعَةٍ في فَمِها مع التَّصوِيتِ في المُناسَباتِ السَّارَّة، تَعبِيرًا عَن الفَرَح.

(7): «مِن كَعْب الدِّسْت»:

إِذا كانَ الدِّسْتُ (القِدْرُ) مَوضُوعًا على النَّارِ، فَإِنَّ مِنَ السَّائِدِ أَنَّ الحَرارَةَ أَشَدَّ ما تَكُونُ في الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الدِّسْتِ أَي عِندَ قَعْرِهِ. وقِصَّةُ المَثَلِ أَنَّهُ كانَ أَحَدُ الباعَةِ المُبَسِّطِينَ اتَّخَذَ مَركَزًا لَهُ في سُوقِ الدَّلَّاِلين. وكانَ يَبِيعُ الكُرُوشَ الَّتِي يَطبُخُها في دِسْت. وحَدَثَ ذاتَ يَومٍ أَن تَنازَعَ اثنانِ مِنَ المارَّةِ قُربَ المَوقِعِ المَذكُورِ، واحتَدَمَ النِّزاعُ بَينَهُما، ونَزَعَ أَحَدُهُما حِذاءَهُ يُرِيدُ أَن يَضرِبَ بِهِ الآخَرَ، إِلَّا أَنَّ الحِذاءَ أَخطَأَهُ وَوَقَعَ في دِسْتِ الكُرُوش. ولَم يَتَمَكَّنِ البائِعُ مِن سَحْبِ الحِذاءِ مَخافَةَ أَنْ يَراهُ أَحَدُ المارَّةِ فَتَتَأَثَّرَ تِجارَتُهُ، فَأَخَذَ يَكْبُسُ الحِذاءَ في قَعْرِ الدِّسْتِ حَتَّى لا يَطْفُو. وصادَفَ مُرُورُ أَحَدِ الزَّبائِنِ أَثناءَ كَبْسِ الحِذاءِ، فَوَقَفَ وظَنَّ أَنَّهُ لا بُدَّ أَن يَكُونَ أَجْوَدُ كَرْشٍ في كَعْبِ الدِّسْتِ، فَأَشارَ إِلَى البائِعِ أَنْ يُعطِيَهُ الَّذِي في الكَعْبِ، والبائِعُ يَتَغافَلُ ويَتَمَلَّصُ مِنهُ ويَرفَعُ أَحَدَ الكُرُوشِ ويَقُولُ لَهُ: «خُذْ هَيْدا، هَيْدا مْنِيْح كبِيْر ومِسْتِوِي»، والزَّبُونُ يَرفُضُ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا الَّذِي في القَعْرِ، وعِندَما أَعْيَتِ البائِعَ الحِيلَةُ، رَفَعَ الحِذاءَ وقال: «هَيْدا مِنْ كَعْب الدِّسْتِ. خُذْهُ وَحِلّ عَنِّي».

            (مُقتَبَسٌ مِن كِتابِ «البَيارِتَة: حِكاياتُ أَمثالِهِم وَوَقائِعُ أَيَّامِهِم»، لِلمُؤَرِّخِ عَبْد اللَّطِيف فاخُورِي)

(8): «اللِّي بيُسْلُكْ عا الرّعِيّة، ما بيُسْلُكْ عا الخُورِيّة»:

قِصَّةُ المَثَلِ أَنَّهُ بَعدَ مَوتِ خُورِي إِحدَى القُرَى الـ «البُوْنا سِمْعان»، اخْتِيرَ رَجُلٌ يُدعَى «مَخُّول» خَلَفًا لَهُ. لكِنَّ الـ «البُوْنا مَخُّول» لَم تَكُن عِندَهُ كَفاءَةُ سَلَفِهِ في اجتِذابِ المُؤمِنِينَ، فَاشتَرَى لَوحَةً كَبِيرَةً تُمَثِّلُ القِدِّيسَ مِيخائِيل، وَوَضَعَها في إِحدَى زَوايا الكَنِيسَةِ، واختَبَأَ وراءَها، ثُمَّ غَيَّرَ لَهجَتَهُ وانتَحَلَ شَخصِيَّةَ القِدِّيسِ وراحَ يَتَكَلَّمُ بِلِسانِهِ، فَيُسَمِّي النَّاسَ بِأَسمائِهِم، ويُسدِيهِمِ النُّصْح. ولَم يُفشِي سِرَّهُ لامرَأَتِهِ خَوْفَ ذُيُوعِه. وجاءَ مَن يُخبِرُ الخُورِيَّةَ بِعَجائِبِ القِدِّيسِ، فَهَرَعَت بِدَورِها لِتَرَى وتَسمَعَ، وتَتَحَقَّقَ مِنَ الأَمرِ بِنَفسِها. فَناداها القِدِّيسُ مِيخائِيل بِاسمِها وقالَ لها: «أَنْتِ هي الخُورِيَّة، والخُورِيَّة يَجِبُ أَن تَكُونَ راضِيَةً مَرْضِيَّة، فَلا تُقاطِعِي “المُحْتَرَمَ” إِذا تَكَلَّمَ، لِأَنَّ رِضانا مِن رِضاه والوَيْلُ لِمَن عَصاه». فَاقتَرَبَتِ الخُورِيَّةُ مِن صُورَةِ القِدِّيسِ حَتَّى لامَسَت شَفَتاها أُذُنَهُ، وقالَت لَهُ: «يا مَخُّول… اللِّي بيُسْلُكْ عا الرّعِيّة، ما بيُسْلُكْ عا الخُورِيّة».

                                        (مُقتَبَسَةٌ مِن سَلام الرَّاسِي، المَجمُوعَةُ الكامِلَةُ، ج 2، ص 346)

(9): «طُبّنِي طَبِّتَك العافِيَة»: تُقالُ لِلرَّجُلِ أَو المَرأَةِ عِندَما نَقصِدُ المَسكَنَةَ والغَفْلَةَ وقِلَّةَ الحِيلَة.

                 (مِن كِتابِ «مَحْكِيَّةُ طَرابُلُسَ وأَمثالُها التُّراثِيَّة»، لِلُأستاذِ مُحَمَّد سَنْجَقْدار)

(10): مَثَلٌ مَأخُوذٌ مِنَ البَيتِ التَّالِي لِخَلِيل مُطران في رِثاءِ الشَّيخِ ابراهِيم اليازِجِي:

      رَبَّ البَيانِ وسَيِّدَ القَلَمِ         وَفَّيتَ قِسطَكَ لِلعُلَى فَنَمِ

اترك رد