اضطر العديد من الأدباء الروس الأحرار خلال الحقبة السوفيتية ، الى مغادرة وطنهم ، بعد اسقاط الجنسية السوفيتية عنهم ، أو تهديدهم بالاعتقال ، أو تضييق الخناق عليهم ، او حظر نشر اعمالهم . ومن هؤلاء سيرغي دوفلاتوف ( 1941-1990) الذي يعد ظاهرة فريدة في الأدبين الروسي والعالمي . وهو واحد من الادباء الروس الأكثر شهرة في الغرب ، الى جانب بوريس باسترناك ، والكساندر سولجنيتسن ، وجوزيف برودسكي .
عاش دوفلاتوف حياةً قصيرة ، ولكنها زاخرة بالأحداث الدراماتيكية . غيبه الموت ، وهو في ذروة نضجه الإبداعي . منع من النشر عندما كان يعيش في بلاده . ومنذ عام 1975 اخذ يرسل ما يكتبه من قصص الى المجلات الادبية الروسية الصادرة في المهجر ، مثل” كونتينيت ” و ” فريميا” ، . ما أثار غضب السلطات السوفيتية ، وادى الى فصله من اتحاد الصحفيين السوفيت .
أسباب الهجرة
كانت زوجة الكاتب ايلينا قد هاجرت بالفعل الى أمريكا عام 1978 مع ابنتهما كاترينا . ورفض دوفلاتوف في البداية مغادرة وطنه . وحاول اقناع زوجته بالعدول عن قرارها، ولكن دون جدوي . قالت ايلينا :
-لقد تعبت من الوقوف في طوابير من اجل جميع انواع السلع التافهة . تعبت من المشي في جوارب ممزقة . تعبت من أن أفرح بشراء نقانق اللحم البقري . ما الذي يعيقك عن السفر معي ؟. البتولا ؟
-كلا . لا أهتم بالبتولا على الاطلاق
-اذن ، لماذا ؟
-اللغة . في اللغة الأجنبية نفقد ثمانين بالمائة من هويتنا . نفقد القدرة على المزاح والسخرية . هذا وحده يرعبني . قرائي هنا. من يحتاج قصصي هناك في شيكاغو ؟
-ومن يحتاجها هنا ؟
-الجميع . الناس لا يعرفون عني شيئا حتى الآن
-سيكون الأمر هكذا دائما
-أنت مخطئة
تنبأ دوفلاتوف بمجده الأدبي ، حتى وهو في حالة من اليأس التام . كأنه كان يسمع إشارات من المستقبل بأن قصصه مطلوبة من الجميع . وعندما جاء وقت الاعتراف به كاتبا متفردا كبيرا ، قارنه النقّاد الجادون بدوستويفسكي.
غادرت الزوجة والابنة الى أميركا . دوفلاتوف رافقهما الى المطار . وعاد الى بيته والحزن يعتصر قلبه، فأغرق نفسه في شرب الفودكا. وفوق ذلك بدأ يتعرض الى مضايقات رجال الأمن السري بحجج واهية.
في 18 يوليو عام 1878 تم القبض على دوفلاتوف في لينينغراد ، وادرك من خلال التحقيق معه ان امامه خياران لا ثالث لهما أما الهجرة أو السجن ، فاخنار الهجرة على مضض.
في 24 اغسطس عام 1978 غادر دوفلاتوف وطنه الى الأبد . وقد رافقته في سفره والدته نورا دوفلاتوفا .وتوجها في البداية الى فيينا في انتظار حصولهما على تأشيرة الدخول الأميركية . وتقول ايرا كوروبوفا ، صديقة دوفلاتوف في مذكراتها عن هذا اليوم :” في قاعة الانتظار بدا دوفلاتوف مرهقا جدا، وبدت والدته حائرة ومرتبكة . كان دوفلاتوف الاخير في طابور المسافرين المتجهين الى الطائرة ، ويقف وراءه مباشرة رجل امن مسلح رافقه الى المطار . كل الركاب صعدوا الى الطائرة ، ماعدا دوفلاتوف، ورجل الأمن المسلح . فقد وقف دوفلاتوف بقامته المديدة في منتصف السلم ، وظهره الى مدخل الطائرة ورفع يديه الى الاعلى لتحية مودعيه . كان رجل الأمن يحاول برعونة دفع دوفلاتوف نحو مدخل الطائرة ، ولكن دون جدوى . رجل الأمن كان صغير الحجم ، ضئيلا أمام دوفلاتوف العملاق. ثم استدار دوفلاتوف وصعد الى الطائرة ، ووقف لحظة والتفت نحو الجمهور، رافعا يديه الى الأعلى”.
تحدث دوفلاتوف لاحقا عن اسباب هجرته قائلا : ” كنت خائفا من مثل هذه الخطوة الخطيرة ، التي لا رجعة فيها .إنه مثل الولادة من جديد ، حتى لو كانت الهجرة بمحض ارادتك “. وبعد عدة سنوات من هجرته ، وخلال لقاء صحفي مع مجلة ” سلوفا ” الروسية :” سأله الصحفي ، ان كان قراره بالهحرة صائبا ، ويستحق المخاطرة بمصيره ، فرد قائلاً :” كان الامر يستحق ذلك في الاقل لأن البقاء في البلاد بالنسبة لي وللكثيرين من أصدقائي لم يكن آمناً ، بالاضافة الى ذلك ، كنا انا واصدقائي محظورين من النشر ، خاصة ما كنا نكتبه بصدق وجدية . غادرت لأكون كاتباً ، وأصبحت كاتباً . كان عليّ أن اتخذ قرارا بشأن الاختيار بين السجن ونيويورك . كان الهدف الوحيد من هجرتي هو الحرية الابداعية ، ولم تكن لديّ أي أفكار أخرى ، ولم تكن لديّ أي شكاوى بشأن السلطات . لم اكن اشكو من شح الأغذية والملابس ، وطالما كانت المعكرونة تباع في المتاجر ، لم اكن افكر في لقمة العيش . لو سمحت الرقابة لي بالنشر داخل البلاد لما هاجرت ” .
صحيفة “الأمريكي الجديد “
في 26 فبراير 1979 وصل دوفلاتوف الى نيويورك ، وبذلك التم شمل عائلته ، حيث استقر في حي المهاجرين الروس في منطقة ” فورست هيلز ” وبعد فترة قصيرة من وصوله اسس مع عدد من أصدقئه الأدباء والصحفيين صحيفة اسبوعية ليبرالية باللغة الروسية وهي صحيفة ” الأمريكي الجديد “. وعلى الرغم من وجود صحف روسية عديدة في أميركا ، الا أن ” الأمريكي الجديد ” اصبحت خلال فترة وجيزة الصحيفة الروسية الأولى ، واوسعها انتشارا بين المهاجرين الروس ، الذين تدفقوا بالالوف الى الولايات المتحدة في اواخر السبعينات .
كانت الصحيفة تنشر موضوعات لصيقة بحياة هؤلاء المهاجرين ، الذين يعذبهم الحنين الى وطنهم الأم.
لم يتأقلم دوفلاتوف قط مع الحياة الأميركية ، ولم يكتب باللغة الانجليزية ، كما فعل فلاديمير نابوكوف وصديقه المقرب جوزيف برودسكي. وكانت تناقضات الحياة في أميركا وظواهرها الغريبة تثير دهشته وكتب يقول : ” أشعر كأنني في متجر العاب للاطفال . حيث اسمع اصوات اطلاق نار بشكل غير متوقع”.
عندما اطلق الشاب جون هينكلي النار على الرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1981 ، لجذب انتباه امرأة غريبة . تصدرت صورة المجرم الصفحات الأولى لجميع الصحف الاميركية . هتف دوفلاتوف :” يا الهي ، قل لأميركا أن تفكر ! دعها تعقل ، متجاوزة تجربتنا الكابوسية ، دعها تكتسب الحكمة ، وتنجو من مأساة الاشتراكية . اغرس فيها غريزة الحفاظ على الذات . واجعلها تضع حدا للاهمال الكارثي “.
وفرت امريكا لدوفلاتوف حرية الابداع ، والحياة الكريمة بسخاء . وكان ممتناً لها على ذلك وقال في مقابلة صحفية :” ان الشخص لا يختار مهنة الكتابة ، بل هي تختاره . ولا يمكن للكاتب أن يتخيل وجوده من دون العملية الابداعية “.
أعمال دوفلاتوف
اعتاد دوفلاتوف ان يصدر رواية او مجموعة قصصية في السنة في امريكا ، واحيانا في أوروبا .وبلغ اجمالي عدد كتبه ،التي اصدرها في غضون اثني عشر عاما اكثر من 13 كتابا . وكانت تترجم الى الانجليزية على الفور . هذا الى جانب عمله في اذاعة ” صوت امريكا ” الناطقة بالروسية ، حيث كان يتحدث الى مواطنيه في الاتحاد السوفيتي عن الأدب الروسي ، بعيدا عن السياسة . ولا يمكن القاء اللوم على دوفلاتوف بسبب عمله في تلك الاذاعة ، لأن ذلك كان االسبيل الوحيد لأيصال صوته وآرائه في الأدب الى أبناء وطنه .
في أعمال دوفلاتوف يتشابك الواقع الأمريكي مع ذكريات الحياة في لينينغراد . لم يستطع دوفلاتوف الإنفصال عن ماضيه . ومعظم روائعه الأدبية لا علاقة لها بامريكا ، منها روايات “” المنطقة ” و ” الحقيبة “، “هضاب بوشكين ” و”أهلنا ” وغيرها. ولا توجد في هذه الأعمال أي حبكة تقريباً ، ولكننا نسمع فيها موسيقى روح دوفلاتوف . نثره الايقاعي الفريد .
كان سحر شخصية دوفلاتوف طاغياً . ونحن نفهم لماذا وقعت النساء في حبه . ولماذا تحمّلت زوجته ” حياته البوهيمية “. فقد بدا جميع الرجال الآخرين مملين الى جانب دوفلاتوف .
افتتح دوفلاتوف صفحة جديدة من النثر الاعترافي ، والمحادثة المباشرة مع القارىْ . حيث يعطي المؤلف انطباعا بالبساطة ، ىويفهمه كل القراء من الغفير الى الوزير .
كان دوفلاتوف سعيدًا عندما كان الناس يعيدون سرد قصصه ، كما لو انها حدثت في الواقع فعلاً . ولكن قصصه لم تكن أبدا إستنساخا للواقع ، على الرغم من أن ابطاله يحملون اسماء شخوص من اصدقائه وزملائه في العمل ، وفي الوسط الأدبي .
بعد وفاة سيرغيه دوفلاتوف في 24 أغسطس عام 1990 في نيويورك ذاع صيته في روسيا على نحو مفاجيء ، وكنت ترى كتبه في أيدي القراء في كل مكان في موسكو ، والمدن الروسية الأخرى . وقد اثار ذلك دهشتي ، فهذه هي المرة الأولى التي يكتسح فيها كاتب الساحة الأدبية الروسية فجأة وبقوة ، ليصبح بين ليلة وضحاها أشهر كاتب في البلد بين ابناء جيله ، في حين أنه لم يكن معروفا بالأمس سوى في الولايات المتحدة الأميركية ، والى حد ما في أوروبا ، و لحلقة ضيقة من الأصدقاء في روسيا .
ترجمت أعمال دوفلاتوف الى أكثر من ثلاثين لغة في العالم . ويكفي أن نقول انه الكاتب الروسي الوحيد الذي نشرت له مجلة ” نيويوركر ” الثقافية المرموقة في امريكا عشر قصص خلال بضع سنوات . وهي مجلة النخب الأميركية المثقفة ، التي يحلم كل كاتب شاب واعد بالنشر فيها . ويمكن القول ان اغلب الكتّاب الأمريكيين الذين حصلوا على جائزة ” بوليتزر ” ، أو جائزة نوبل في الأدب ، نشروا أولى أعمالهم الأدبية في هذه المجلة تحديداً .
اسلوب دوفلاتوف
البساطة والوضوح ، والإيجاز الخالي من التزويق ، والجمل القصيرة ، والدقة في اختيار الكلمة المناسبة، والإيقاع الفني ، من أهم سمات اسلوب دوفلاتوف . كل جملة من كتاباته تبدو بسيطة لأول وهلة ، ولكنها تحمل في الواقع فيضاً من المعلومات ، التي تعطي مساحة لخيال القارىْ ، ولا تعيق قدرته على الاستيعاب والادراك ، ولا تشتت انتباهه .
ومقولة موباسان تنطبق على كتابات دوفلاتوف أكثر من أي كاتب آخر : ” أياً كان الشيء الذي نريد قوله ، فإنه لا توجد إلا كلمة واحدة للتعبير عنه ، وفعل واحد للحديث عنه ، ونعت واحد لوصفه . علينا إذن البحث حتى نصل الى هذه الكلمة ، وهذا الفعل ، وهذا النعت ، وألا نكتفي أبداً بالتقريب ، وألا نلجأ الى الغش أو التزييف ، حتى لو كان للتجميل . ولا للمحاورات اللغوية لتجنب الصعوبات .
والسمة المميزة الأخرى لأسلوب دوفلاتوف هي قدرته الفائقة على السرد الممتع الساخر والدعابة المرحة ظاهريا ، ولكن ما ان يتأمل القارىْ هذه السخرية ، وتلك الدعابة المرحة حتى ينتابه حزن شفيف ، ويدرك بعمق عبثية الواقع السوفيتي ، ذلك الواقع الذي يشكل المضمون الرئيسي لمعظم أعمال الكاتب .
ذكرى دوفلاتوف
دوفلاتوف هو الكاتب الروسي الوحيد الذي اطلقت بلدية نيويورك اسمه على احدى شوارعها قريبا من المنزل الذي كان يقيم فيه . وفي وطنه اقيمت له عدة تماثيل في مدينته لينينغراد ، بطرسبورغ حالياً . وثمة جائزة أدبية بأسمه . ويقام في يوم مولده الموافق للثالث من سبتمبر من كل عام مهرجان دوفلاتوف في بطرسبورغ لمدة ثلاثة أيام ، والذي يتضمن فعاليات كثيرة : محاضرات عن حياته وأعماله الأدبية ، وعرض افلام سينمائية ومسرحيات عن حياته أو المستوحاة من رواياته وقصصه . وفعاليات اخرى كثيرة.
وليس من قبيل المصادفة ان الجيل الجديد من القراء الشباب الروس اطلقوا على دوفلاتوف اسم ” الكاتب المحبوب “. وهذا شرف لم يحظ به أي كاتب روسي آخر من جيله .