بقلم: د. يوسف كمال الحاج
كمال يوسف الحاج سيرة على خط القمم. موكب من نور. والنور لا تحوشه كلمات. حياة ترنحت، من المهد إلى اللحد، بين الأرض والسماء، بين الأينونة والديمومة. كيف أحوش النور في حيّز الحرف؟ كيف أرود المستحيل، كاتبًا كلمات في سيرة عصيّة عليها؟ ولكنها الأمانة… أمانتي لديمومة ذكراه في التاريخ عبر أينونة التذكّر في الصارخة
بداية المشوار الأرضي يوم السابع عشر من شباط، في مراكش. غمزة التاريخ الأولى أنّ أبي لم يولد في لبنان، هذا الذي مَنطَقَه، وعقله، وهام به حتى التماهي، بل تنقّل في صباه بين المغرب ومصر. أمّ كمال، أديل بشاره، بروتستانتية ممارسة. مبشّرة ابنة مبشّرة. صاحبة إيمان مسيحي وطيد، وإرادة فولاذية، وقلب من ذهب. مثقفة رهيفة سبقت زمانها بأشواط. وقورة. زاهدة بحطام الدنيا. ومعبودة أولادها. الأب، يوسف بطرس الحاج، ابن الشبانيه، البلدة المتنية العامرة بأفذاذ الرجال، قطب في الأدب والشعر والصحافة… والماسونية في مقلب العمر الأول. عُرِف بابن بطوطة لكثرة أسفاره، وبصداقته الشخصية للملك فؤاد في مصر، وللأسرة المالكة السعودية، ولخزعل خان أمير المحمّرة. أصدر صحيفته الأولى في باريس، وأتبعها بواحدة في دمشق، وثلاث في لبنان. ملك ناصية الشعر، فصيحًا وعامّيًا، ووضع كتبًا طليعية في الماسونية، والصهيونية، والشيوعية، لتعريتها. كان أمير خطابة عزّ نظيره، وساحر جماهير في لبنان وسوريا والعراق ومصر وشبه الجزيرة. جده الأبعد، غصوب الهاشم، من العاقورة. كان يوسف الحاج يتباهى بأصله الهاشمي، ويوقّع جلّ أشعاره باسم يوسف الحاج الهاشم. أسهم في تأسيس رابطة آل الهاشم،
«الجامعة الهاشمية»، إلى جانب قريبيه الهاشميين الأبعدين، أمين نخله ويوسف غصوب. انضمّ إلى الداهشية، فعُرف بالداهشي الأول، قبل أن يشيح عنها .
نما كمال إذًا في كنف عقلين لامعَيْن، وقلبين فياضين، تعارضا وتسايفا بشراسة، إلا على اثنين: محبة زوجية صوّانية، وعشق للغة العربية حتى التقديس. لا عجب إذًا أن يتملك قلبَ الفتى كمال انبهار أثارِيٌّ باللغة العربية تيمّنًا بأبيه، ومحبة رحمية للمسيح اقتداءً بأمه. درس الفتى كمال أصول الخط العربي على أنواعه، متخرّجًا على نجيب الهواويني، خطّاط الملك فؤاد، في سنه الثانية عشرة. عثرت أخيرًا على مديح شعرية من العام 1928 ، أهداه جدي إلى الأسرة الملكية المصرية، وخطّ والدي جميع عناوينه. ثم على مرثاة شعرية من العام التالي، عنوانها «دموع الأرز»، أهداها جدي إلى روح الماريشال فوش وكتب والدي أبياتها كاملةً بخط بديع. ولقد خطّ والدي، لاحقًا، القسم الأكبر من عناوين كتبه. واللافت هو أن أمه وأباه كانا يتقنان الخط العربي، وقد تكون أمه أولى النساء الخطاطات .
حياة الشباب التي عاشها في الشبانيه، على كتف «غابتها» الخلابة، في شاليه ساحر من خشب، بعيدًا عن ضوضاء الأرض، قريبًا من صفاء السماء، أشعلت حبه للطبيعة وما وراءها. هنا الولادة، ربما، للفيلسوف اللاهث وراء الثابت العلواني المترائي في المتحرك الدهراني. جبليًا ولد، وجبليًا بقي، مقدوداً من صخر التواضع، والقناعة، والإيمان المسلِّم، ومفتوناً بلحظة الأبد في رونق الخليقة .
الدراسة الثانوية عند الآباء اليسوعيين، والجامعية عند الأميركان. إدمون نعيم، رحمه الله، أقرب زملائه على مقاعد المدرسة. اغناطيوس هزيم، غبطة البطريرك الهامة، صديقه الأقرب من حبل الوريد في صفوف الجامعة. ومن بين أساتذته، علاقة فذّة بشارل مالك، يعود أصلها إلى صداقة قديمة بين والديهما أيّام مصر. الاحتكاك بين هاتين الصوانتين أثمر شرارات وشرارات، فيها من التباعد في برغسون والتفلسف بالعربية بقدر ما فيها من التناغم في حب الفكر ولبنان .
تعلّم كمال العزف على الكمان بتشجيع من والديه ومرافقة حثيثة من أمه، وكان عضوًا في أوركسترا الجامعة الأميركية، قبل أن يكون للموسيقى في لبنان معهد يعنى بها وأوركسترا وطنية. كان ذوّاقة موسيقى كلاسيكية من الطراز النادر، وشغوفًا بالنتاج الرحباني، وبالأصوات المقنطَرَة بين الأرض والسماء، التي وجدها، أوبراليّاً، في كاروزو وكالاس، وشرقيّاً، في فيروز وأم كلثوم ووديع الصافي. كم وددت لو تعرّف إلى صوت زوجتي فادية، الآتي هو أيضًا من قصيّ المدى الآخر !
كان قصير البنية قويّها، ولكنه أطول بعد من والده يوسف، الذي تندّر عليه صديقه العلامة عبد الله العلايلي ذات مرة، في معرض وصفه لداهش، بالقول: «انتصب بقامة هي أقرب إلى الطول، إذا كنتُ أنا أو صاحبنا يوسف الحاج مقياسًا.» رياضته المفضلة هي المشي. ظل طول حياته موفور الصحة، عارم الصدر، وبقي لسنوات يؤوب سيرًا إلى بيته في محلة المتحف، من مكتبه في كلية الآداب، منطقة الأونيسكو، عند كل سانحة .
قد يكون أول تنطُّحٍ مكتوب له في ميدان الفلسفة هو مناظرة جرت بينه وبين صديقه الدكتور كريم عزقول على صفحات مجلة «الجمهور»، عام 1940 ، وردّ فيها على مقالين لعزقول في «مأساة الفلسفة» و«إفلاسها» بآخر يدافع فيه عن الفلسفة «كحاجة أولى» لكل إنسان قوامها «الفكر والإلهام». لكنه تخرّج من الجامعة الأميركية بإجازة في الأدب العربي عام 1946 ، وكانت رسالته عن مصطفى صادق الرافعي. قبل ذلك بسنة، كان قد أنجز، بمبادرة شخصية، ترجمة كتاب برغسون «رسالة في معطيات الوجدان البديهية» إلى العربية، وهي أول سكب في العربية لأحد مؤلفات برغسون. أمضّته هذه التجربة الخلاقة كثيرًا، لأنها أرته استحالة نقل العبقرية كاملةً من لغة إلى أخرى. وكتب أنّ هذه الاستحالة كانت حافزًا أساسيّاً في إطلاق سفينته الفلسفية بأشرعة مفتوحة، فأمعن النظر في معضلة اللغة، وانتهى إلى إصدار كتابه المحوريّ الأول، «فلسفة اللغة»، عام 1956 ، مستفيدًا مما اكتسبه واكتنهه فلسفيّاً عند تحضير أطروحة دكتوراه دولة في جامعة السوربون. وقد ناقش هذه الأطروحة أواخر العام 1949تحت عنوان «قيمة اللغة عند هنري برغسون»، بعد أن سافر إلى باريس بمنحة دراسية توسّط له فيها المستشرق لويس ماسينيون مكافأةً على جودة ما ترجمه عن برغسون إلى العربية .
في باريس، التي سكنها من 1946 إلى أوائل العام 1950 ، توطّدت صداقته بالآباء يوحنا مارون، وميشال الحايك، ورزق الله مخلوف، والمرسل اللبناني بولس نجم، الذي كان بابه الملوكي إلى الأمانة الكريمية. وهناك أيضًا تعرّف إلى جان-بول سارتر، وإلى إبنة برغسون، التي أهدت إليه صورة لأبيها موقّعة بخطّ يدها. وأثناء غيابه في باريس، أنشأ صديقه ميشال أسمر منبر «الندوة اللبنانية» خريف العام 1946 . وكان قد سبق قيام «الندوة اللبنانية» تأسيس ما سمي بـ «ندوة الاثني عشر» على يد حفنة من المثقفين الشباب. ندوة مقفلة، قوامها ميشال أسمر، وكمال الحاج، وأحمد مكي، وخليل رامز سركيس، وإدوار حنين، ورشدي المعلوف، وفؤاد حداد، وسامي الشقيفي، وفؤاد كنعان، وفاضل سعيد عقل، وكريم عزقول، وصلاح الأسير. وقد تبدلت بالتأكيد بعض الأسماء في المجموعة (جميل جبر، موريس صقر، جورج قزّي، وغيرهم)، ولكن الندوة بقيت دائمًا، وعن عمد، بعدد رسل المسيح. وكان ميشال أسمر، محرّك الندوتين، قد تعرّف إلى والدي بعد أن قرأ مقالاً مشجّعًا حول كتابه الأول، الصادر عام 1938، بقلم الأديب يوسف الحاج، فالتمس التعرّف إلى صاحب المقال، وكان الملتقى الأول في منزل الحاج الكبير، وبحضور ابنه كمال .
فور عودة والدي إلى لبنان في مطلع العام 1950 ، درّس الفلسفة في معهد الآداب العليا الفرنسي وفي الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة، لصاحبها ألكسي بطرس. لم تكن الجامعة اللبنانية، ولا جامعة الروح القدس، قد تأسستا بعد. وفي السنة التالية، اعتلى منبر «الندوة اللبنانية» للمرة الأولى في محاضرة حول ازدواجية اللغة. تلك كانت أيضًا المرة الأخيرة التي رأى فيها أن يحاضر بالفرنسية. بعدئذٍ، وانسجامًا مع اقتناعه الفلسفي، استقال كمال الحاج عام 1925 من منصبه في معهد الآداب العليا لرفضه متابعة تدريس الفلسفة بغير اللغة العربية، ثمّ أحجم عن الكتابة بالفرنسية للأسباب عينها. لكنه بقي يدرّس الفلسفة في الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة، إلى جانب زملاء كبار من أمثال خليل الجرّ وفؤاد أفرام البستاني وعبد الله العلايلي وسعيد عقل وموريس شهاب وأنيس فريحه وإدمون رباط ونجيب صدقه وصلاح ستيتيه ورنيه حبشي وأسد رستم وروبير غانم ورشدي المعلوف والأب ميشال خليفه. ومن طلابه في تلك الحقبة أسماء ستلمع لاحقًا في دنى الثقافة والتربية والقانون والسياسة: مي مرّ، ماري-آنج أبي صالح-برنس، ناديا عون، رنيه رومي-رزق، توفيق توما، جوزف أنطون، جوزف أبو رزق، شفيق سعَيْد، جورج سعاده، سعيد شهاب الدين، محمد علي مكي، فرنسوا أيوب، جوزف أبو جوده، موريس قليموس، أنطوان ملتقى، يوسف حبشي الأشقر، جوزف نجيم، وغيرهم الكثيرون .
بدأ يعلّم في الكسليك ابتداء من العام 1956 . من طلابه الأوائل، أطال الله بعمرهم: الأب يوسف محفوظ (المطران حاليّاً)، الأباتي بولس نعمان، الأب توما مهنا، الأب غسطين عازار. أما الجامعة اللبنانية، التي سيقضي فيها صفوة عمره الأكاديمي، فقد انضمّ إليها أستاذًا منذ تأسيسها عام 1951 كدار عليا للمعلمين، قبل أن تحمل اسمها الرسمي عام 1953 . هو إذًا من رعيلها الأوّل مع خليل الجرّ وفؤاد أفرام البستاني وأحمد مكي وجبور عبد النور وإدمون نعيم والأبوين فريد جبر وجيروم غيث وزاهيه قدورة. ومن طلابه: فؤاد الترك، مفيد أبو مراد، فيكتور الكك، محمود حمّود، محمّد علي موسى، وليم الخازن، أحمد حاطوم، ناصيف نصّار، غسان خالد، بطرس حبيب، حبيب الشاروق، ربى سابا، إلهام منصور، موسى وهبه، علي غصن، مهدي فضل الله، حنا الشاعر، رفيق غانم، رواد طربيه، الياس الحاج. واللائحة أطول من أن تحصى. وسيتولى والدي رئاسة قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية من 1957 إلى 1947، وعمادة كلية آدابها بالوكالة بين 9691 و 1791 .
السنة 1953 هي في حياته تاريخ-مفترق. فقد عيّن عامذاك رئيسًا لمصلحة الشؤون الثقافية في وزارة التربية، ليصبح أول رئيس لما سيصبح لاحقًا وزارة الثقافة. كذلك، تعرّف إلى الآنسة الأديبة ماغي الأشقر، خريجة الأكاديمية اللبنانية ونسيبة المفكر السياسي أسد الأشقر، واقترن بها. ثمّ بدأت أول مرحلة من إنتاجه الفلسفي الغزير. افتتحها عام 1954 بكتاب مدخل لفلسفة رنيه ديكارت، ليصدر بعدئذ كتابًا آخر من جزئين حول فلسفة هنري برغسون في العام التالي. ثمّ جمع، عام 1956، سلسلة من المحاضرات السابقة بين دفتيْ جزء أول من كتاب عنونه «فلسفيات»، قبل أن يصدر، بعد أشهر من العام نفسه، كتابه المحوري «فلسفة اللغة»، الذي أطلق شهرته الفلسفية الواسعة وحدا بدار النهار، ناشرة طبعته الثانية عام 1967 تحت عنوان «في فلسفة اللغة»، على أن تقدّمه بهذه الكلمات: «منذ «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» للإمام عبد القاهر الجرجاني (المتوفى سنة 174 هـ)، لم يظهر في اللغة العربية كتاب تناول معضلة اللغة في مدواتها الفلسفية كالذي وضعه الدكتور كمال يوسف الحاج… الشيء الأكيد هو أنّ كتاب «في فلسفة اللغة» يعتبر أقوى دفاع فلسفي يلقيه مفكّر لبناني عن اللغة العربية… وقد جاء بمثابة قاعدة لإحياء حركة فلسفية تكون اللغة العربية قالبها الأوحد.» كتاب «فلسفة اللغة» هو، في ظنّ العارفين، من أرفع وأبقى ما أبدع كمال الحاج. إنه حجر الزاوية لما يمكن أن نسميه، فلسفيًا، العهد الكمحجي الأول، حيث تبرز تباعًا براويز الحاج الفلسفية الكبرى: فلسفة الأمة والقومية 1957، تعادلية الجوهر والوجود 1958، الأمة العربية 1959، القومية اللبنانية (1691)، فلسفة الميثاق الوطني 1961. ينتهي هذا العهد عام 1691، مع صدور كتابه المحوري الثاني: «الطائفية البناءة أو فلسفة الميثاق الوطني». وتغيب عن هذا العهد أفهومة الفلسفة اللبنانية، مع أنّها موجودة برعميًّا في محاضرة للحاج عن أمين الريحاني الفيلسوف، عام 1963، حيث كان سبّاقًا في كشف الغطاء عن البعد الفلسفي في نتاج الأمين.
شهدت هذه الفترة أيضًا ولادة «ندوة الإثنين»، وهي منتدى ثقافي نابض، رديف للندوة اللبنانية، إذ هو يلتئم في مكاتبها. أعضاؤه: ميشال أسمر، كمال الحاج، خليل حاوي، هشام نشابه، نور سلمان، جميل جبر، أحمد مكي، ليلى بعلبكي، إدفيك شيبوب، سامي الشقيفي، جوزف أبو جوده، سهيل ادريس، جورج شامي. سقى الله تلك الأيام الذهبية من عمر لبنان الثقافة
بين 1961 و1966 «عبور صحراء» لكمال الحاج، كما يرى ميشال أسمر بقلق في الرسالة التمهيدية التي نثبتها في ختام هذا الكتاب، حيث يقول: «وكان انقطاعه، منذ العام 1961، عن كل تظاهرة كتابية علنية، وكانت جلستي معه في غروب صيف 1965.» ميشال أسمر مخطئ. صديقه كمال لم ينقطع عن الكتابة العلنية في هذه المدة، ولو بصبيب «شحيح» نسبيّاً. نجد له ست محاضرات، إضافة إلى ترجمته «تأملات» ديكارت إلى العربية. والرابعة من هذه المحاضرات، «المبرّر الفلسفي للقومية اللبنانية» (1963)، استثنائية بامتياز. ففيها يرسم الحاج، للمرة الأولى، خطًّا جديدًا في حياته الفكرية، بل في حياة لبنان الفكرية. إنه خطّ ”الفلسفة اللبنانية. أما الاستثنائية الأخرى، غير الفكرية، في تلك المرحلة، فهي قبوله التدريس في حرم غير جامعي، معهد الرسل، الذين حضن أيضًا أولاده الذكور الأربعة… كل هذا وفاء لصداقته برئيس المعهد، الراحل الكبير الأب بولس نجم.
عندما أجاب كمال الحاج قلق ميشال أسمر برسالة توضيحية، كان يفتتح عهده الثاني في مساره الفلسفي. نثبت هذه الرسالة الفائقة الأهمية، وهي بعنوان «في غرّة الحقيقة» (1966)، في نهاية الكتاب. إنها فرش رائع من كمال الحاج لمراحل تكوين فلسفته ولمراميها الآتية. من يودّ أن «يكمش رأس الخيط» للولوج إلى عالمه الرحيب الغوير عليه أن يبدأ من هنا.
في العهد الكمحجي الثاني تبرز، إضافة إلى العناوين القديمة، بعض محطات جديدة: الإنسان في أبعاده الثلاتة (1966)، خطر الصهيونية (1967)، المسيح سيّدًا للتاريخ (1968). دخلنا في مرحلة حساسة للغاية من تاريخ لبنان، قبيل نكبة السادس من حزيران 1967. النزال العقائدي في بلاد الأرز على أشدّه. القوميات تتصارع عليه، وهي فئتان: الماضويّة منها، والانسانية الحقوقية. الأولى تريد أن تبعث «ماضيًا مُجَغرَفًا» كما يقول الحاج، من الفرات إلى النيل مثلاً (الصهيونية)، أو من المحيط إلى الخليج (العربية)، أو الهلال الخصيب (السورية). الثانية قائمة على الكيان السياسي المرتكز على الحقوق الانسانية والإرادة الشعبية الحرة والدولة المستقلة السيدة على حالاتها في الداخل والخارج. تلك هي القومية اللبنانية الإنسانية كما امتشقها كمال الحاج.
في هذا العهد أيضًا يبدأ كمال الحاج الماروني «ابن بكركي البارّ»، والمفكّر الجامع بقوة بين العقل والإيمان. بدأت العلاقة الأيـِّدة مع سيد بكركي، البطريرك مار بولس بطرس المعوشي، يوم قرأ غبطته محاضرة للحاج في أوائل العام 1967 دفاعًا عن المقام البطريركي، وذلك في إثر مناظرة حادة كان طرفاها الأبرزان كمال الحاج وسبع بولس حميدان، الاسم القلمي لأسد الأشقر. عنوان المحاضرة: «بكركي صخرة الخلاص». مذّاك بدأت صداقة فريدة بين والدي والسيّد البطريرك، صداقة لم أعثر بعد على نظيرها في العمق والمتانة بين علماني ورأس كنيسته. فلقد كان بطريرك «العروبة البيضاء» يطلب الوقوف على رأي والدي في كلّ شاردة وواردة من حياة الكنيسة ولبنان، وكان يسميه «بول كلوديل الشرق». كذلك، لم يجد سماحة مفتي الجمهورية آنذاك، فضيلة الشيخ حسن خالد، أفضل من كمال الحاج الماروني لتكليفه بالردّ على كتاب «نقد الفكر الديني» للمفكر السوري صادق جلال العظم، الذي أحدث يومئذٍ ضجةً كبيرة في الأوساط الدينية وسُحب من التداول.
على كل الجبهات الفكرية الكبرى، كان كمال الحاج المناضل الأبرز، وأحيانًا الأوحد. في الصراع على قومية لبنان وديمومته، علا زئير كمال الحاج على كل النقيق. في الدفاع عن اللغة العربية وتحديثها والإبداع فيها، ربّان السفينة هو كمال الحاج. في تثبيت الروح الميثاقية بين جناحي لبنان غَلَقًا لعقد الدولة اللبنانية والكيان السياسي، رأس الحربة هو كمال الحاج. في «الطحش» على العقيدة الصهيونية وتقويض حججها، لا جرأة فوق جرأة كمال الحاج. في فكفكة الماركسية والتصدي للإلحاد المعاصر، سيّد المنابر هو. في التنظير للاعتدال المسيحي متمثلاً في بكركي، دونك كمال الحاج. حتى في التصدي لجملة من «الانتفاضات» ضمن الكنيسة المارونية، ومن داخل البطانة الإكليروسية، وبعضها على شخص البطريرك بالذات، ما تجرّأ أحد سوى كمال الحاج .
في كل هذه المعارك، كان والدي مطمئنًا إلى النصر الأخير لأنه كان واثقًا بصدق بيانه وقوّة حجته. جبهة واحدة فقط أدرك أنها ستستحوذه طويلاً لأنها، بكلماته، الأكأد مطلبًا، والأبعد قطافًا، والأوعر مرتقًى: كيف نلبنن الفلسفة لنفلسف لبنان؟ واستطرادًا: كيف نزاول الأفعول الفلسفي لجبه معاضلنا المصيرية؟ وأخيرًا: هل ثمة أسانيد تاريخية لهذا الجبه الفلسفي اللبناني عبر العصور؟ أثمة فلسفة لبنانية؟
يخطئ من يعتقد أنّ كمال الحاج تطارح على نفسه هذه الأسئلة لأول مرة أواسط السبعينات، في إطار معركته الشَّروس لإدخال مادة الفلسفة اللبنانية في البرامج الأكاديمية لقسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية. واقع الحال هو أنه دشّن دروسًا جامعية في الفلسفة اللبنانية من على منبر جامعة الروح القدس منذ أواخر العام 1966. وللتاريخ نذيّل هذا الكتاب بالنص الكامل لدرسه الأوّل في هذه المادة .
في قراءتي أنّ العهد الكمحجي الثاني دام حتى سنة 1972، وكان صاخبًا ومثمرًا للغاية. من أهم محطاته كتابان ومحاضرات أربع. الكتاب الأول دار «حول فلسفة الصهيونية» (1967). أصله مجموعة مقالات نشرت في جريدة «الحياة» بعد حرب الأيام الستة. الثاني، «بين الجوهر والوجود أو نحو فلسفة ملتزمة» (1971)، أرسى في صيغة مكتملة نظامه الفلسفي القائم على تعادلية الجوهر والوجود وعلى انخراطية الفلسفة في السياسة، منطلقًا فيه مما كان قد حبّره في هذا الباب بشكل تخطيطي عام 1957.
أما المحاضرات الأربع، فقد ألقيت متسلسلة، صيف العام 1969، تحت عنوان واحد: «لبنان في اللهب. هل يحترق؟» فيها انطلق الحاج من لبنان كما هو كائن إلى لبنان كما يجب أن يكون، مفنّدًا ما يحدق به من أخطار داخلية وخارجية. في هذه السلسلة تبرز رؤيويته الاستباقية للحرب في لبنان وعلى لبنان بشكل لافت. وأذكر للتاريخ أنه كتب إحداها، الثالثة على ما أظنّ، بجرّة قلم واحدة، في ليلة يتيمة، وهذا نادر جدًّا عنده .
منذ تلك السلسلة، ازداد تشديد والدي على لبنان الواجب أن يكون. على لبنان الغد. على لبنان التاريخ. عناوين مختلفة للبنان واحد: لبنان الرسالة. الحاج تكلّم على رسولية لبنان، وعلى لبنان الأكثر من وطن، عشرات السنين قبل يوحنا بولس الثاني. هل هي المصادفة أن يموت هذان الخالدان في اليوم نفسه، في الثاني من نيسان؟ ربما في ذلك إيماءة من فوق إلى وجوب رعاية الأعجوبة اللبنانية دون هتك سرّها .
«غــــد لـــــبـــنــــــان فصل من لبنان الغد»، يقول الحاج. «لبنان الغـــــد أكـــــــثر مــن لبنانيّ… لبنان الغد رسوليّ… ورسولـيّته موجهة إلى اللبنانيين في الـــداخــــل، وإلى العرب في الخارج، وإلى جميع شعوب الأرض.» كتب الحاج هذه الكلمات قبيل أشهر من استشهاده، فارتجع صداها في المقولة البابوية الشهيرة، في السابع من أيلول عام 1989: «لبنان هو أكثر من وطن: إنه رسالة حرية ونموذج تعددية للشرق كما للغرب .»
في رأس العام 1972، ماتت أمه، معبودته، بين يديه، وكان وحده معها. رافقها منذ حشرجاتها الأولى وحتى تمتمات وصاياها الأخيرة. هذا العيان للموت، فتَقَدُّمه في السن، فخيبة أمله من الفلسفة أمام حتم الموت، «مَريَـمَه». هكذا يشهد أبي لحلول العذراء في كيانه: «كان ذلك في كنيسة صغيرة محتشمة. لا يؤمّها إلا المساكين بالروح. كنت راكعًا أصلي. وقد لملمت كل أطرافي نحو قلبي، نحو عقلي، نحو ضميري، لأستحضر وجه أمي الحبيب في أعماق نفسي. كنت أبكي بصمت خانق ورأسي بين راحتيّ… وأنا في تلك الليلة المسعورة نادتني العذراء… أجل، سمعت العذراء تناديني، باسمي. ورأيت نور عينيها. وكان مساء. وكان صباح… أنا اليوم ولد من أولاد العذراء… على أقدامها رميت فلسفات هذا العالم الأفّاك… لم أعد أستأنس الفلسفة إلا بمقدار ما توضح لي عمق ارتباط مريم بالثالوث الأقدس العظيم .»
بهذه الكلمات افتتح والدي عهده الفلسفي الثالث، والأخير، واللا-إلى-منتهى، كما سمفونية شوبيرت. ورغم خيبته المعلنة من الفلسفة. فهو لم يهجرها إلا تقنيّاً، إذا صحّ التعبير. بقيت في عروقه. في أنفاس يراعه. في نبض مداده. كان في حاجة ماسة إليها لتركيز ولده المدلّل، الفلسفة اللبنانية، «في إطاريها الواجبين»، الفلسفة العالمية والفلسفة العربية، ضمن ملحمة فلسفية جبارة يروز فيها، بالعربية وبرؤيا واحدة، ركائز الفكر العالمي عبر العصور في اثني عشر مجلدّا ضخمًا تحت عنوان «معالم الفكر الإنساني». في هذه الموسوعة، تأتي الفلسفة اللبنانية كسلسلة فكرية ثانية، من أربعة مجلدات، بين سلسلتَيْ الفلسفة العالمية (الأولى) والفلسفة العربية (الثالثة)، أيضًا في أربعة مجلدات لكل منها. السبب الموجب للموسوعة هو، بكلماته، «أن نلبنن الفلسفة باللغة العربية لنفلسف لبنان في عالم عربي ينتفض». هذا قيل عام 1972، بعد التمَرْيـُم .
لم تمهله الأقدار ردحًا كافيًا لتحقيق هذا الطموح الجبار، المنقطع النظير في الفضاء العربي، بل ربما على الإطلاق: أن يحوّم كاتب واحد حول كلّ الفلسفة بنَفَس الفيلسوف لا المؤرّخ. هذا إنجاز لا يقوى عليه إلا أفذاذ يجود بهم التاريخ، إن جاد، في هنيهات نادرة تقاس بالقرون. خسارة ولا أفدح أنزلها بنا قاتلوه، والوحيدة التي يليق بأن يُثأر لها، ولو بعد مئات السنين .
الحرب على مصير لبنان، وتشويه الحقيقة اللبنانية، ومسخها، تمهيدًا لابتلاع الكيان الرسالة، بدأت في أروقة الجامعة قبل أن تندلع على مساحة الوطن. نعيق الشؤم صمّ آذاننا الأكاديمية بين 1972 و1975، مقابل تغريد كمال الحاج، «النشاز»، بديمومة القومية اللبنانية الانسانية، وعظمة لبنان التاريخ، وأسبقية الإنسان الحرّ على كلّ كتلة مجتمعية صمّاء، وعناد المحبة النصلامية، وحقيقة الفلسفة اللبنانية. وبدأ والدي يتيقّن، في هذه الأجواء المشحونة حتى الغليان، من أن شفرة الموت لن توفّر الوطن، وقد لا توفّره هو. على نفسه ما اكترث، هو الناذر نفسه لربّ الحياة وأمه. أما على الوطن، وعلى أجياله الآتية، فخاف… من عبودية التجهيل الرهيبة خاف. لذا خاض أشرس معارك حياته الأكاديمية بغية إدراج الفلسفة اللبنانية كمادة إلزامية في برامج الدروس الأكاديمية في الجامعة اللبنانية، وتمّ له ما أراد عام 1974، في عهد صديقه ورفيق عمره وزير التربية آنذاك، الأديب والسياسي الصديق الأستاذ إدمون رزق .
في ظل أجواء ما قبل الحرب، الحبلى بالانفجار، تقدّم على سكتين نذر نفسه لهما: الأولى هي إلقاء المواعظ الدينية بعد تحوله، بُعيْد تمريمه، متصوفاً بلباس مدني، والثانية هي الشروع بكتابة «موجز» لمجلدات الفلسفة اللبنانية في موسوعته كي يرجع إليها الطلاب في المادة المقررة حديثًا. وهكذا ولدت مواعظه التأملية في الميلاد، والكاهن، ويوسف البتول، والفصح، والعذراء، والصليب، والثالوث، وظهر مجلّده الضخم «موجز الفل سفة اللبنانية» (كذا!). هذا الأخير هو، على مثال «فلسفة اللغة»، من أبقى وأثمن ما كتب، رغم بعض النقص الذي يشوبه بسبب استعجال تأليفه تحت وطأة الخوف من مصير مشؤوم بدأ والدي يتوجّسه، بحدسه الرهيف شبه النبوي، «جزاءً» على كل ما جاهد في سبيله بصلابة وصدق ناصعين .
ثم كانت الحرب. فالصعود إلى الشبانيه. فالعمل على التهدئة والوئام بين أبناء الجبل. فتزوُّجُ أصابعه سبحة الصلاة. فانهمار دموعِه كلما اقتبل القربان المقدّس. فانعتاقه بالروح إلى أحضان السماء. فرغبته في إنهاء حياته مترهّـبًا في دير الكريم …
… فالثاني من نيسان …
… فالخلود في ذمّة التاريخ …