قراءة في رواية “ما تبقى لكم” للروائي غسان كنفاني

 

 

 عفيف قاووق

                – لبنان –

لا بد من الإعتراف بأن صعوبة ما تواجه القارىء خلال تصفحه لرواية “ماتبقى لكم” للشهيد غسان كنفاني، فأسلوبها إعتمد على تقنية غير مألوفة حيث يتداخل المكان والزمان بالماضي والحاضر،إضافة إلى أن الحوارات والتي جاءت متقطعة ومعظمها أشبه بالمناجاة او المونولوج وكأنها حوارات تُجرى عن بعد بين شخوص الرواية، ولا يمكن للقارىء  إكتشاف ان الحوار او المكان قد إنتقل إلى شخص آخر ومكان آخر وحتى زمن آخر، إلا بعد أن يُلاحظ التغير في نمط وحجم الخط  كما أشار المؤلف نفسه.

رواية “ما تبقى لكم ” تلامس المعاناة التي عصفت بشعب فلسطين بعد أن أقتلع من أرضه، وقد أعتمدت الرمزية كأسلوب للتعبير عن تلك المأساة من خلال شخصيات طبيعية جسدها كل من حامد، مريم وزكريا إضافة إلى شخصيات إعتبارية  مثل الساعة  أو الصحراء. وهذه الشخصيات هي من حددها لنا المؤلف كشخصيات رئيسية لروايته.

أسرة حامد هي النموذج الذي إعتمد للولوج إلى قلب المأساة الفلسطينية، نتيجة تهجيرها من يافا إلى غزة وإنتقال الأم إلى الاردن بعد أن قتل الأب برصاص المُحتل، بقي حامد الصغير مع أخته مريم التي تعرضت للأذى وإنقلاب حياتها رأسا على عقب، دون أن ننسى حامد وزكريا الذي يُمثل كل واحد منهما نموذجا مختلفا عن جيل الشباب الفلسطيني وكيفية تعامله ونظرته إلى الواقع الذي فُرض على السكان.

عنوان الرواية ” ما تبقى لكم” يختصر كل شيء فالجميع قد تشظى نتيجة الإحتلال، مريم لم يتبقى لها سوى زكريا ومراقبة دقات الساعة، وحامد لم يتبقى له سوى الصحراء والتوغل فيها وكذلك الأم التي رحلت إلى الاردن لم يتبقى لها سوى إحتفاظها بالسر حيث دفن سالم وهكذا ، إنه زمن الشتات وما تبقى منه.

 

إضاءة على شخصيات الرواية

1.مريم : هي ليست فقط أخت حامد الذي هربت معه من يافا إلى غزة، والتي تكسرت أحلامها على يد زكريا ، بل هي ترمز إلى الوطن، إلى فلسطين التي هي الأخرى أخذت عنوة وعلى حين غرّة. فإذا كانت مريم -الأخت- قد أغتصبت من قبل زكريا الذي إستغل غياب أمها وضعف أخيها الذي يصفه دائما بالصغيرفإن مريم الوطن أغتصبت من قبل المحتل الذي إستفاد هو الآخر من غياب وتشتت إخوة مريم إذا جاز التعبير . ليبقى الأمل كما شهدناه في نهاية الرواية عندما انتفضت مريم لكرامتها وثأرت لنفسها وقضت على زكريا وكانها بهذا الفعل توحي بأن مريم الوطن لا شك بأنها ستتطهر من الدنس الذي لحق بها وتقوم هي بنفسها بتطهير صفوفها من الداخل كما فعلت مريم عندما واجهت زكريا وقتلته بعد أن إعتدى عليها وأحتل منزلها عنوة.

2.زكريا: يُمثل الجانب الإنهزامي لشريحة من الشعب الذي إرتضى الواقع الذي فُرض وقبل التعامل والتعايش معه، هذه الشريحة بمنطقها الإنهزامي تخدم بشكل أو بأخرمنطق المحتل، لا بل تصبح وجها من وجوهه.لقد ظهر زكريا بوجهين لعملة واحدة، الوجه الأول هو قيامه بإستدراج مريم وإغتصابها وإحتلاله لمنزلها و”كأن البيت بيته خلع حذاءه وتمدد على المقعد فبدا مجرد لطخة مصادفة في مكان غير مناسب”، وقد تزوجها بلا مهر تحت شعار”كله مؤجل” مما تسبب بترك أخيها حامد البيت والمدينة كلها والرحيل بإتجاه الصحراء، أن زكريا بفعلته هذه يعتبر نوعا من الإستيلاء على ممتلكات الآخرين بكل معنى الكلمة، وهذا الإستيلاء هو نفسه ما قام به الإحتلال وإستيلائه على الأرض والمساكن وطرد أهاليها ودفعهم الى صحراء الشتات. أما الوجه الآخر لزكريا والذي لا يقل بشاعة عن الأول تجلى في عمالته للإحتلال وخيانته لبني جلدته عندما تطوع لإرشاد المحتل على ابن بلده سالم، 

إن زكريا وأمثاله أشد خطورة من العدو نفسه، وللأسف هذه الظاهرة لا تزال تجد لها مكانا عند ضعاف النفوس، وليس أدلّ على وجودها وإستمرارها – ونتمنى أن يكون غير صحيح- ما أشيع مؤخرا عن كيفية تعامل البعض مع الأسرى الذين أنتزعوا حريتهم، فأعادهم أمثال زكريا إلى قفص الإعتقال . لذا فقد كان حامد محقا بوصفه الذي أطلفه على زكريا بأنه ” نتن”.

3.الساعة:الشخصية الإعتبارية الأولى في هذه الرواية كانت ساعة الحائط التي جلبها حامد وهي أشبه بنعش خشبي صغير، كونها تقتل الوقت فهي ساعة ترمز إلى الإنتظار والترقب، وهي تعني أن الرهان فقط على الزمن ودقات الساعة دون فعل أي شيء هو إنتظار عقيم  لا بل هو أنتظار قاتل عندما تصبح دقات الساعة أشبه بصوت عكاز مفرد.

ساعة ثانية ذكرتها الرواية هي ساعة اليد التي تطوق معصم حامد كقيد حديدي، والتي خلعها في الصحراء لإنتفاء الحاجة إليها، وهو يقول “هنا لا أهمية إلا للعتمة وللضؤ” وكأن غسان كنفاني أراد أن يقول بأن الصراع الحقيقي هو بين العتمة وبين الضؤ، بين الإحتلال وبين الحرية، ومهما طال الزمن فلا يجب أن نربط أنفسنا برزنامة ومواقيت محددة، ولا ضرورة للإلتفات إلى الساعة او الى الوقت الذي ستستغرقه عملية العبور من العتمة إلى الضؤ.

4.الصحراء: وهي الشخصية الإعتبارية الثانية في الرواية، وهي تمثل ربما صحراء الشتات التي فرضت على شعب فلسطين، ومن ناحية أخرى يمكن إعتبارها ترمز إلى الأرض التي لم يتبقى غيرها لحامد. 

تقول الصحراء في وصفها لحالة حامد، “هذه المرة بدت وقفته حازمة ونهائية،وخُيّل إليّ أن قدميه قد غُرستا في صدري كجذعيّ شجرة لا تقتلع”. وأيضا وفي موضع  آخر يصف المؤلف حالة حامد وإلتصاقه بالصحراء بالقول: ” فغرس أصابعه في لحم الأرض وذاق حرارته تسيل إلى جسده، ومرر شفتيه فوق التراب الدافىء قائلا ليس بمقدوري أن أكرهك،إنني أختار حبك ليس ثمة من تبقى لي غيرك”.

5.حامد: بداية ظهرت شخصية حامد ينتابها الضعف وقلة الحيلة، لم يستطع مواجهة زكريا ورضي به مرغما زوجا لأخته مريم بمهر “كله مؤجل”، كان حامد أقرب إلى الشخصية الجبانة الخائف من الإعتقال، تقول له أخته:” لماذا يقتلونك أنت،أنت لم تفعل لهم شيئا،لقد قتلوا سالم لأنه كان يعارضهم”. 

لقد أمضى حامد مع عائلته واخته ستة عشر عاما لُفتْ فوقه خيطان الصوف حتى تحول إلى كُرة وبإنتقاله إلى الصحراء حاول أن يفكها، لم يستطع تحمل العار الذي ألحقه به زكريا فترك بيته ومدينته بإتجاه الصحراء ليتسنى له التطلع إلى قرص الشمس، شمس الحرية .

النقطة المفصلية في مسيرة حامد  هي عندما تواجه في الصحراء مع الجندي الإسرائيلي وتعارك معه وسيطر عليه، وهنا يحاول غسان كنفاني فلسفة الصراع مع المحتل بلسان حامد وحواره مع هذا الجندي قائلا له: ” الوقت لا يمكن أن يكون ضدنا نحن الإثنين معاّ،والقصة كما ترى قصة مسافة وربما زمن،ولكن لا أكترث بالزمن، والمسافة هي لصالحي لأنك أقرب إلى نصل سلاحي مما أنا أقرب إلى فوهات بنادقكم، ولم يبقى لي شيئا لأخسره”.واللافت أن غسان كنفاني ترك نهايه هذا الحوار معلقا  ليقول إن هذا الصراع مع المحتل بدأ ولم ينتهي بعد وهو مستمر ليومنا هذا.

نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها وهي العبارة التي تكررت أكثر من مرة على لسان كل من حامد وأخته مريم. وهي عبارة ” لو كانت أمي هنا “.

ظاهرا قد يفهم منها ان حامد يفتقد لأمه وحنانها ويعتبرها الملاذ الآمن الذي يلجأ اليه وقت الشدة. ولكن ألا يمكن أن نعتبر الأم هنا هي الأمة التي يطلب كل من حامد ومريم مساعدتها ووقوفها إلى جانبهما. وقد عبر حامد عن خشيته من ان تكون هذه الأم – الأمة- قد نسيته وإلتفتت إلى همومها ومشاكلها الخاصة ، وقد ترجم هذه الخشية محدثا نفسه :”ماذا ستفعل لو دخلت إلى بيتها وقالت لك هذا زوجي، كان لا بد أن أتزوج حين حسبت أني فقدت كل شيء”. وأيضا نجد مريم يخالجها نفس الشعور بالشك تجاه أمها-الأمة- تقول لأخيها حامد:”هذه الأم التي لم تعرفها حقا، هل تصورت إنها ستقوم معك تقطع الصحراء عائدة إلى غزة تفتح الباب وتلقي زكريا بالطريق وتعيد لمريم عفافها وطهرها”.

بالإشارة إلى هذه النظرة التشاؤمية تجاه الأمة- الأم- هل يمكن لنا ان نستشف منها أن يكون غسان كنفاني يحاول التلميح إلى نوع من الإحباط واليأس الذي أصابه نتيجة تخاذل البعض وقلة الناصر؟ سؤال القادم من الأيام كفيل بالإجابة عليه..    

 

 

اترك رد