وحيد والدَيه، زوزو.
والدُه، طوني، رَبْعُ القامة. أسمرُ شديدُ السُّمرة. ذو رأسٍ ضخمٍ جعْدٌ شَعرُه. قصيرُ العنق، ضخمُه. نافرُ العُروق، ثَخينُها. مَجْدورُ الوجهِ الحاملِ عينَين مُدَوَّرتَين صغيرتَين تكادان لا تظهران. مفتولُ الزّندَين، قصيرُ السّاعدَين والأصابع. يعمل سائقَ سيّارةٍ ينقل الرّكّابَ طوال نهارِه وبعض ليله.
طوني، هذا، صريحٌ، صادقٌ، جريءٌ، مُسامِحٌ، مرِحُ الطِّباعِ. لهذا، يُحِبُّه النّاسُ، ويُفَضّلون الانتقال معه، ولو كانت سيّارتُه المرسيدس الحمراءُ، قديمةَ الطِّراز، حائلةَ الّلون. إلّا أنّها نظيفةٌ، دائمةُ النّظافةِ. والرّكّابُ يميلون إلى السّيّارةِ النّظيفةِ، وإن عتيقة.
ونجلا، أُمُّ زوزو، شقراءُ البشَرةِ النّاعمةِ والشَّعرِ المُسَرَّحِ، دائمًا، تلك التّسريحةَ التّقليديّةَ المتَناسِقةَ. وإلّا، فهو الطّويلُ الكثيفُ المُهمَلُ المُنْسَدِلُ على الكتفَين حتّى الخَصْر، تقريبًا. طويلةُ القامةِ الممشوقةِ الرَّشيقةِ كالآهِ. وجهُها، المائلُ إلى الطّولِ، عريضُ الجبينِ، يحمل عينَين خضراوين واسعتَين صافيتَين كنيّة طفلٍ بريءٍ، عميقتَين كالأسرار.
نجلا، هذه، غامضةٌ، تَبوحُ وتستر، تُخبرُ وتُخفي، بعيدةٌ من الثّرثرة والحلَقات النّسائيّة اليوميّة؛ ليس لأنّها تعمل طوال النّهار، كمسؤولة النّظافة في مدرسة وحيدِها زوزو، إنّما لأنّ الثّرثرةَ ليست من طباعها. لذلك يُحِبُّها الجميعُ، ويتمنَّون لها الخير والصّحّة والسّعادة، ونجاحَ… زوزو!
وفي زوزو، وحيد طوني ونجلا، منهما، شَكلًا وطِباعًا. من أبيه، القامةُ والّلون والعينان والزّندَان، إلى الصّراحةِ والصّدقِ والجرأة والمرح؛ ومن أمّه الشَّعرُ والجبين والتَّحَفُّظ. إلّا أنّه كان، في طفولته، كثيرَ الدَّلَع، مُحِبًّا الّلعِبَ، كارهًا المدرسةَ والدّراسةَ والكتبَ والأساتذةَ والمكتباتِ جميعًا. وبما أنّه ليس وحيدَ والدَيه فحسْبُ، بل والعيلة، فقد كان يحصُل على ما يريد، وبسهولة، من أنسباء أسرتِه جميعًا. ما يزيدُه غُنجا ودَلَعًا ودلالًا!
طوني، ما إن أصبح يفُكُّ الحرفَ، حتّى ترك المدرسةَ والتحقَ بأبيه، جدّ زوزو، وكان مُزارِعًا يعشقُ الأرضَ في فصولها كلِّها. يقول: لكلّ فصلٍ جمالُه وقيمتُه وفوائدهُ. فبرعَ الحفيدُ، ما عوّضَ أسى الجدّ وحزنَه وألمَه لتخَلّي حفيدِه عن عالَم الكتاب.
وكانت نجلا، أُمُّ زوزو، زمنَ التَّلْمذةِ، مُحِبّةً للمدرسة والدّراسة، مجتهدةً. لكنّ والدَها التّقليديَّ التّربيةِ والنّظرةِ إلى البنت، سحبَها وسلّمها إلى الجارة ماري، إحدى أشهر خيّاطات ذاك الزّمن. كانت تكرهُ المهنةَ هذه، فما تعلّمتْها، ولم تُتِمّ دراستَها لظُلْم والدِها. إلّا أنّها اجتهدت في العمل المنزليّ، وما تخلّت، أبدًا، عن حبّ المطالعة، فاستمرّت تقتني الكتب وتطالعُها، فحصّلت ثقافةً متقدّمةً على بنات جنسِها، وبعض أبناء عصرِها، ما جعلها تَحسُنُ في نظر الكثيرين من مُحِبّي العِلم.
وكانت عينا طوني عليها، من بين أعين كثيرين. لكنّه كان الوحيدَ الّذي نفذ إلى قلبِها وعقلِها والوِجدان. فماذا فعل؟
كان طوني ذكيًّا. أخذ يُهديها الكتابَ بعد الكتابِ. يسألُها: أيَّ كتابٍ تحِبّين؟ ويؤمّنه لها ولو من آخر الدّنيا! ويسألها عن مضمون كلّ كتاب. يقول لها: هكذا تتثقّفين وتثقّفينني معك، بقدر ما يكون بمقدوري.
وكان زوزو قد انتهى إلى صفّ الرّابع المتوسّط، بلغة تلك الأيّام، ما يعادل الأساسيَّ التّاسع اليوم. انتهى إلى هذا الصّفّ، بشقّ النّفس! لم يكن ليدرس. ولم يكن لينتبه في الصّفّ. ولا ليُعيدَ دروسَه في المنزل. ولا ليهتمّ بفروضِه. بل كان مهتمًّا بالّلعب، وهو في الصّفوف الابتدائيّة. من ثمّ بصيد العصافير، وكثيرًا ما يهرب من المدرسة ليلتحق بأترابه الهاربين مثله لمطاردة العصافير، واصطيادها بالنّقّيفة أو البارودة، هديّةِ جدّه ذات صيف، إذ رُفِّعَ إلى الصّفّ الثّاني المتوسّط.
أعاد زوزو صفَّه هذا مرّاتٍ أربعًا، ولم ينجح. كان والداه يحثّانه على الدّراسة، ويُشجّعانه، ويَعِدانِه بهدايا قيّمة؛ وكذلك جدّاه لأمّه وأبيه. فهو وحيد. وذكيّ. ولم يُفلِحوا. يقول والدُه: صبيّ لا يرغب في العِلم! ووالدتُه: ألصّبيّ مثل أبيه، يقرف من المدرسة! وزوزو، هو حقيقةً، كذلك! أربع سنوات ولم ينجح في مادّة واحدة، حتّى ولا القراءة! لا ينقضي أسبوعٌ أو أسبوعان، حتّى يبدأ يضيّع كتبَه واحدًا بعد الآخر. ولا يُخبر أحدًا لئلّا يشتري له أبوه بدلًا منها. ألكتبُ لا تضيع، هو يُهمِلُها. يتناساها في المدرسة، تضيع! لا يطيق الكتبَ، زوزو! ولا الدّفاتر. إلّا أنّه، في إعادته الرّابعة للصّفّ عينِه في المدرسة الجديدة الّتي نُقِلَ إليها، بعد أن عجزت نجلا عن التَّوَسُّط له، هذه المرّة، أُعجِبَ بمعلّمة الّلغة الفرنسيّة؛ كان كتابُ هذه الّلغةِ الوحيدَ الّذي لم يَضِعْ!
سينتيا! كان اسمُها سينتيا. صبيّة جميلة. درستْ في مدرسة راهبات البيزنسون، فأحبّت لغتَهنّ وأتقنتْها. وأحبَّها صاحبُنا، وأحبَّ، خُصوصًا، لثغتَها بحرف الرّاء الّتي تلفظها كالغين. وهو، حين يراها، تنتبه حواسُّه. فهو كبير على صفّه، وأكبر من رفاقه بسنوات ستّ، لأنّه ما اكتفى بالمرّات الأربع لصفّه هذا، بل أعاد الصّفّ السّابق مرّة، والّذي قبله مرّة. وحين يسمعها بفرنسيّتها المُتقَنة، وبلثغة الغين، فكأنّما تجري مياه ساخنة على ظهرِه. يُحِبُّها زوزو. يهتمّ لحصّتها. يُسكتُ المُشاغبين، لا يحتمل أن يُعذِّبَها متعلّم. يُصغي إليها. يحدّق بدقّة واهتمام وانتباه. أخذ يتحسّن بالفرنسيّة. يضحك أبوه، يقول: ألصّبيّ معلَّق طربوش أبيه ببرج إيفل! ويتندّر…
وكانت سينتيا تبتسم له. فأخذ يبني، في خياله الشَّغِفِ، أحلامًا أحلامًا. كانت سينتيا صبيّةً مرحةً، فرِحةً، تُحِبُّ الحياةَ وتُقبِل عليها. لا تُطيقُ العابسين. لا تحتمل المتشائمين. تؤمن بأنّ الحياةَ فُسحةٌ من الزّمن، لنحياها بالفرح، طالت أم قصُرت! وكانت دائمة الابتسام؛ ما جعل زوزو يظنّ أنّها تُحِبُّه! فانتفخت أحلامُه الّتي صدّقها، ولم يحسب، للحظة، أنّها أوهامٌ، أو أحلامٌ في مَعْمَعة الرّياح على مفترق الأربع الجهات!
وحين علمت سينتيا بحكاية زوزو والمدرسة والكتب والدّراسة، اعتبرتْ أنّها نجحت معه، إذ كان قريبًا من النّجاح في الفرنسيّة فقط! فبدأت تحادثُه وتُشجّعُه على الدّراسة والمطالعة. حتّى إنّها وعدتْه، كلّ مرّة يتقدّم عن سابقتها، بكتاب. وكان كتاب أوّل للكومتيس دو سيغور. فرح زوزو، فرح كثيرًا، وأحسّ بالتّحليق، وبأنّ الدّنيا ضاقت به!
وما زاده عشقًا، وشَغَفًا، ونَبْضَ قلبٍ، أنّ سينتيا تمتلك سيّارة جديدةً، وجميلة. إشترتْها مع بدايات المدرسة في شهر تشرين الأوّل، ومن الوكالة في بيروت. وزوزو يُحِبّ السيّاراتِ وقيادتَها بسرعة. وسيارةُ سينتيا سريعة. بدأ يحلم. وفي يوم، أتى منيرُ صاحبُ الدّكّان المُواجِه للمدرسة، يطلب تبديل مكان وقوفها لسبب. وهي تدرّس. تبرّع زوزو بفعل ذلك، وأصرّ: أنا أقود من زمان. أقود سيّارتَنا وسيّارة عمّي وخالي. وافقت بعد تَرَدُّد. رأى زوزو أنّ موافقتَها رِضى عنه، ومَيلٌ إليه. إغتبط بكونه جلس في مقعدها. تحسّس مواضعَ يدَيها. تشمّم عطرَها، أحبّ رائحتَه، وعرف نوعَه، فابتاع لها قارورة من النّوع ذاتِه. تلكّأ في إهدائها إيّاها، ثمّ رأى أنّ عيد المعلّم يقترب، قال: ستكونُ المناسَبةَ المناسِبة.
لكنّ زوزو وقع في وَرْطة كبيرة! لقد اكتشف أن لسينتيا خطيبًا يُحِبُّها وتُحِبُّه! فاسودّتِ الشّمسُ. امّحى القمرُ. زالتِ النّيّراتُ. أظلمَ الكونُ! لبستْه الحَيرةُ. ألمّتْ به السُّوَيداءُ. تفجّر فيه القلق!
فماذا يفعل زوزو!؟
شتمَ الأيّامَ. لعنَ الحظَّ. سبَّ الحُبَّ. إغتاظ من العشّاق!
عقدَ العزْمَ على كره سينتيا. ما نجح. جرّب ينساها. ما استطاع. حاول يتفادى النّظر إلى عينيها. كان فشَلُه ذَريعًا. فبدأ يُهمِل الّلغةَ الفرنسيّة. إستدعتْه، سينتيا، سألتْه:
– أنت تتراجع، يا زوزو! إنتبه! ألا ترغبُ في كتابٍ جديد؟
ثبّت عينَيه في عينَيها، نبرَ:
– لا! لا أريدُ!
– هل من سبب؟
– ولن أبوحَ به!
– لماذا؟ قد أستطيعُ مساعدتَك!
– لا! لا تستطيعين!
– أُفّ! أترى هذا، جازِمًا؟
– أنا كبير وأفهم!
– إذًا، ضَعْ عقلَك في رأسِك، وركّز على دروسك، إذا وددتَ النَّجاحَ!
– سأنجح! وسأنال الشّهادة!
– مع الدّرس والاهتمام والاجتهاد، نجاحُك أضمنُ، وأكثرُ أهمّيّةً! أنت مُحِقٌّ، تنفتحُ أمامك الآفاقَ الوِساع! تجعلُك أمام خَياراتٍ كثيرة!
– قلتُ لكِ إنّي لا أريد نصائحَ، ولا إرشادات. سأنجح!
– حرام عليك، يا زوزو!
صرخَ في وجهها:
– حرام عليكِ، أنتِ!
– عليّ أنا، يا زوزو!؟
– زوزو! زوزو! كلُّكم تنادونني هكذا! أنا جوزف، لستُ زوزو! لستُ زوزو! صرتُ رجلًا وتعاملونني كصبيّ صغير!
عجبت سينتيا، فتحت عينيها واسعتَين، متسائلتَين:
– لا تغضبْ! هدّئ من روعك! حرام عليك!
– بل حرامٌ عليكِ، أنتِ! أنتِ!
– أنا!؟
– أنتِ، نعم! قتلْتِني!
واختفى، غاضِبًا، بسرعة الضّوء، من أمام عينيها المُرتبِكتَين، ووجهِها المُشِعِّ حَيرةً وقلَقًا. وكان بعضُ زميلاتِها والزّملاء والمديرة قد سمِعوا حوارَهما.
فتقدّمتِ المديرةُ، مبتسِمةً، همستْ في أذنها، بشيء من العتب:
– ألم أقلْ لكِ إنّ زوزو… يُحِبُّكِ!؟
اَلأربعاء 20 نيسان 2016
elie.khalil@hotmail.com