في زمن تنعدم فيه جدوى كثير من الأفعال، حيث تقتصر جهودنا على ضمان استمرارية الحياة بهمومها اليومية وبديهياتها التافهة، في هذا النفق المظلم الذي لا نرى في آخره بصيص نور، قد يبدو الشعر ترفاً لا مكان له ولا طائل منه. ولكن، وجدتُ نفسي ألجأ إلى الشعر وإلى الأدب عامةً، أقرأ لأنهل ما يحيي الروح ويشحذ الفكر ويشحن القلب ويؤكد حب البقاء وإمكانية الحلم والمتعة.
وقد اخترتُ من الشعر الأميركي قصيدة “اللُطف” (Kindness) للشاعرة الأميركية من أصل فلسطيني نعومي شهاب ناي. وهي قصيدة تَردَّد الحديثُ عنها وكثر تَبادُلها ونشرها (علماً بأنها كتبت في التسعينات من القرن الماضي)، منذ أن اجتاحت العالم جائحة كورونا اللعينة. تناقل القراء هذه القصيدة على واحد من أشهر مواقع الشعر على الإنترنت كان قد خصص صفحة لمعالجة العزلة والخوف بالشعر، أسماها “القصائد الملاذ” (Shelter Poems)، ينشر عليها قصائد يختارها القراء المشتركون مما قرأوه ويقرأونه من شعر سواء لشعراء كبار أو معاصرين أو مبتدئين، على أن يعبِّر هذا الشعر عن جانب أو جوانب من الحالة التي تمر بها البشرية، وقد يحمل بين السطور وفي طيات المعاني ما يهدئ البال ويطلق الخيال ويولِّد الآمال.
نعومي شهاب ناي من مواليد عام 1952 في ولاية ميسوري الأميركية. صدرت لها عدة مجموعات شعرية ورواية ومقالات وكلمات الأغاني. تركت زيارةُ الصبية نعومي لفلسطين عندما كانت في الرابعة عشرة وإقامتُها هناك لمدة سنة أثراً كبيراً في نفسها، انعكس على كتاباتها وكانت تلك السنة كافية لتطبع أفكارها ومشاعرها بفهم عميق وتفهُم مرهف للمعاناة والألم والغربة التي يسببها الاحتلال والظلم، ولتنصهر في كتاباتها قضايا إنسانية كبرى وصغرى، من الحرب والسلم والاختلاف والتقارب بين الثقافات والكفاح من أجل الحرية والبقاء، إلى معضلات الحياة والموت، إلى الهموم اليومية والعلاقات الإنسانية، والبساطة والتسامح والذكريات.
اللُطف
قبل أن تعرف اللُطف حقاً
يجب أن تخسر أشياء،
أن تشعر بالمستقبل يتلاشى في برهة
مثل الملح في مرَقٍ مخفَّف.
كلُ ما أمسكتَه بيدك،
ما حسبتَه وادّخرتَه بعناية،
يجب أن يضيع، لكي تعرف
مدى بؤس المشهد خارج مناطق اللُطف،
لكي تعرف كيف تظل راكباً وراكباً
معتقداً أن الحافلة لن تتوقف مطلقاً،
والركاب الذين يأكلون الذرة والدجاج
سيظلون يحدقون عبر النافذة إلى الأبد.
قبل أن تدرك جاذبية اللُطف الرقيقة
يجب أن تسافر إلى حيث الهندي،
بمعطفه الأبيض، ممدّد ميتاً
على جانب الطريق.
يجب أن ترى كيف كان يمكن
أن تكون أنت ذاك الهندي،
كيف كان هو أيضاً شخصاً ما،
سافر طوال الليل مع خططٍ في باله
ومجرد نفَسٍ يبقيه على قيد الحياة.
قبل أن تعرف اللُطف كأعمق شيء داخلك،
يجب أن تعرف الحزن كالشيء الأعمق الآخر.
يجب أن تصحو وبك حزن
وأن تظل تتحدث إليه
حتى يلتقط صوتُك
الخيطَ الذي ينسج كلَ الأحزان
وترى اتساع القماشة.
عندئذٍ، وحده اللُطف يصبح ذا معنى،
وحده اللُطف يعقد رباط حذائك
ويرسلك إلى النهار للتحديق في الخبز،
وحده اللُطف يرفع رأسه
بين حشود العالم ليقول
أنا مَن تبحث عنه،
ثم يذهب معك إلى كل مكان
مثلَ ظلٍ أو صديق.
***
(*) نعومي شهاب ناي، شاعرة أميركية من أصل فلسطيني. من مجموعة “كلمات تحت الكلمات” (1995).