من الكتاب الفكريّ السادس “أفكار خارج العزلة” – يصدر في عام 2022
ابتعد رجل عن بعض عشيرته، وأقام منفرداً، لا يفتح بابه إلاّ لقليل من الناس، ممّن يحبّهم ويحبّونه.
واشتكى أهل العشيرة ممّا فعله الرجل إلى القاضي، فاستدعاه وسأله: لماذا فارقت أبناء جلدتك، ولا تريد أن تكون بينهم؟
قال الرجل: لقد بلغتُ يا سيّدي القاضي، من العمر عتيّاً، وصرت أميّز بين امرئ يحبّني صدقاً، وامرئ لا يحبّني… كما أعرف مَن يحسدونني على نعمتي، ومَن يظهرون الوفاء والمحبّة، ثمّ يطعنون.
-لكنّك خالفت الشريعة التي تقول: إنّ على أبناء العشيرة أن يتعاونوا في البرّ، ولا ينأى واحدهم عن الآخر، إلاّ لعلّة أو لسبب وجيه…
-إنّ لديّ سبباً وجيهاً، فالشريعة تقول في نصّ آخر: “نجّنا من الشرّير”… أفلا يعني هذا أيضاً أنّ علينا أن نبتعد عن الأشرار، للنجاة بأنفسنا من سواد القلوب والنوايا؟
-هل أنت تعتبر أنّ هؤلاء المساكين الطيّبين أشرار؟
-أعوذ بالله أيّها السيّد، فإنّني لا أدين أحداً، وإن كنت ضحيّة الإدانة، فليس من أحد شرّيراً حتّى العظم. الإنسان كتلة من خير وشرّ، فالبعض يغلب الخير عليه، والبعض الآخر يغلب الشرّ في روحه… وشتّان بين الحمامة البريئة التي تكره السوء والضرر، والغراب الأسود الذي يطبق بجناحيه على بياض الأقحوان.
-لكنّ هؤلاء الناس يقولون إنّك متكبّر، متعجرف، ومغرور…
-ماذا لديهم ليقولوا غير ذلك؟ فليس من قضيّة تدينني أمام المحكمة، وهم يختارون تهمة لا وجوب للبرهان فيها… يمكنك أن تقول عن الشجرة العالية إنّها تكبّرت على النبتة الضئيلة التي ترتعش في الريح. وتستطيع أن تحاكمَ جبلاً بجناية الغرور لأنّه يشمخ برأسه على الوادي العميق. كما يمكنك أن تحكم على العبقريّ بالسجن لأنّه أفهم من الثرثار المزعج… لقد كنتُ مخيّراً بين النجاة من الأذى، وبين هذا الادّعاء الفارغ… بيْد أنّني ما زلتُ أفتح بابي للشمس، والنسيم العليل، والحديقة المزهرة التي تناديني إليها، وفي كثير من الأحيان تقتحم بيتي برائحة عطرها، فأستقبلها بوجه بشوش… كما أستقبل أناساً من أهلي الصالحين الذين أطمئنّ إليهم، وأعرف أنّهم صادقون ومحبّون…
فكّر القاضي قليلاً، وسأل القوم الحاضرين في المحكمة: ماذا تريدون أن أفعل، بعدما سمعتم قوله وعرفتم حجّته؟
صاحوا جميعاً: أحكم عليه بالسجن، أو ليعد إلينا متواضعاً، ويتخلَّ عن كبريائه المَقيت…
خاطب القاضي الرجل: هل سمعت؟ لقد أمرَ عليك المجتمع برمّته، فلا يحقّ لك أن تعاند الأكثريّة، وتختار لنفسك قانوناً لا ينطبق على الجماعة، فارجع إلى أهلك، وابتعد عن العزلة التي فرّقت بينك وبينهم… وإنّني أضمن لك بأنّك لن ترى منهم سوى الخير والفضائل.
وبعد أيّام، كان القاضي يتجوّل في الليل على فرسه، فرأى الرجل نفسه مطعوناً في خاصرته، والدم يسيل من جرحه، فخفّ إليه، وسأله بقلق وانفعال: مَن الذي طعنكَ أيّها الرجل البريء؟
تنهّد الجريح بصعوبة، وأجاب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: أنت.
***
(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني