عفيف قاووق
ونحن نُبحِر في رواية «الحب في زمن العولمة» لا بد من التطرق إلى بعض النماذج للمرأة التي قدمتها، ومن هذه النماذج
أسمهان زوجة سائد الشواوي:
وهي من بنات الطبقة المخملية الثريّة، وابنة حمدالله الكفري رئيس مجلس إدارة البنك، خريجة جامعة بريطانية، ومتخصصة في العلوم المالية والمصرفية، عملت في بنك والدها.. نجدها تترك وظيفتها لتلتحق بركب النساء المتزوجات، وتصبح ربّة منزل بالمفهوم التقليدي بزواجها من سائد الشواوي التي تنجب له سفيان وثريا وتتفرغ لرعايتهما. وبهذا الزواج نجدها تتراجع خطوات إلى الوراء، فقد استطاع سائد الشواوي أن يقتل طموحها، ويسيطر على عقلها وتفكيرها، وأصبحت امرأة مُلحقة بالرجل بالمفهوم الشائع في الشرق، وبالرغم من اتمام دراستها الجامعية، نلاحظ أن أسلوب حياتها ونمط تفكيرها أقرب إلى نمط تفكير حماتها الحاجّة صفيّة أكثر من إقترابها من نمط تفكير ابنتها ثُريا.. لقد أصبحت تؤمن بالخرافات وبالحسد وبوجود قوى خفيّة تتربص شرأً بعائلتها، كما أنها صارت تخشى على أولادها الأغنياء من تعديات الفقراء.. هذا إلى جانب سهولة انقيادها واقتناعها بما تمليه عليها صديقتها سميرة من اقتراحات.
وعند اشتداد المرض على زوجها خشيَّت بعد وفاته وحلول ابنها سُفيان مكانه أن تقتصر صلاحياتها وتتقلص لتصبح مجرد (واجبات الوالدة)، وأن توضع في مستوع أمهات رجال الأعمال.
ورغم مظاهر الترف والرفاهية المتوفرة لها، إلا أن نوعا من الملل والركود قد تسلل إلى حياتها حيث اعتبرت نفسها تعيش ضمن ما يشبه الجيتو وتبث شكواها وتذمرها إلى صديقتها سميرة:
ليست حياة يا سميرة، حارة البلوط هذه كالجدار الإسرائيلي الملفوف حول أعناق الفلسطينين.. نحن لم نتعود أن نعيش داخل أسوار ضيقة، فأنا مضطرة لأن أحدد موعدا لمن تريد زيارتي من خارج الحارة، وأن أنتظر مجيئها. ولقد صرنا مثل دجاج المزارع نخاف أن نخرج من بوابة الحارة إلى المجتمع»(ص165).
ثريـا ابنة الشواوي:
أظهرت الرواية، الابنة ثُريّـا على أنها فتاة لطيفة، ودودة، ولبقة، تُحسن التصرف ، وتحترم الجميع من دون النظر إلى مستوياتهم الاجتماعية أو الثقافية، وترفض وقوع الظلم على أي كان، وتستنكر التسلط ونهب حقوق الآخرين، سواء بالتحايل أو بالقوة، وترى أن للجميع الحق بالحصول على فرص الحياة الكريمة، تتمتع بأخلاق كريمة وسلوك اجتماعي منضبط، وحياء وتواضع لا يخفيا على أحد.. وعند مرض والدها لم تبخل عليه بدمها، وعندما شرح لها الطبيب فريدريش كيفية إجراء عملية نقل الصفائحالمقوية لجهاز المناعة، قائلاَ:
«هذا الجهاز سوف يسحب من دمك الصفائح المقّْوية لجهاز المناعة، ويرسلها إلى والدك، ثم يُعيد لك دمك من جديد، إنها دورة دموية يتم فيها فرز للصفائح المُقويَة، وإرسالها للدورة الدموية لوالدك، فهل أنتِ موافقة؟» لتجيبه وهي تمسح دموعها عن فمها: «لقد أفهموني ذلك، أنا وروحي فداء أبي… أتمنى أن أكون السبب في شفاء أبي من هذا المرض اللعين.»
ونتيجة لأخذها دروساً على يد الأستاذ مهران، الشاب العصامي المنتمي لطبقة اجتماعية متوسطة الحال، بدأت تخالجها بوادر إعجاب به، ورأت فيه النموذج الفكري الذي يتلاءم مع تفكيرها، وأصبحت تحلم بالزواج منه والعيش معه حياة بسيطة هانئة، ولكن ساورها الشك بصعوبة كسر هذا الحاجز الطبقي بينها وبينه، فعاشت صراعا نفسياً بين أحاسيس الأمل والألم، لأن كلاً منهما يسير في طريق مختلف ويُحلق في سرب مختلف، ويعيش في طبقة مختلفة، وسيكون هناك صعوبة كبيرة في انتزاع موافقة أهلها على هذا الارتباط غير المتكافىء من وجهة نظرهم .
سميرة زوجة لؤي الداري رئيس البنك:
نموذج مختلف من النساء تقدمه لنا الرواية، هو نموذج المرأة الطموحة الهادفة لتحسين دخلها وتحصيله من خلال دخولها عالم البزنس عن طريق الوساطة التجارية أو ما يعرف بالعمولات والسمسرة، وهي التي سعت إلى إقناع صديقتها أسمهان لشراء فيلا فخمة في مشروع (حارة البلوط) وقبضت مبلغ خمسين ألف دولار، قيمة الخمسة في المئة؛ عمولتها من صاحب مشروع حارة البلوط، معتبرة أن العمولة ليست عيبا، حتى ولو كانت أسمهان صديقتها، إذ أن العمولة هي (بزنس»(92 . وفي هذا السياق تعاونت سميرة مع حسان جعفر رئيس البلدية، فكانت تبحث معه في مشاريع عقارات المدينة، فيُطلعها رئيس البلدية على مُخططات الأراضي، موضحاً لها المعلومات المطلوبة، ويشير بقلمه إلى الأراضي مدار البحث قائلاً:
«هذه المنطقة ستتحول (من سكن أ إلى سكن ب ) وسوف يزداد سعرها، ونسبة مساحة البناء المسموح عليها ستزداد، وتلك الأرض ستتحول من سكني إلى تجاري، فيقفز سعرها، وتلك الأرض سيشق بها شارع رئيس يربط شرق الولاية بغربها، فتقفز أسعار الاراضي ، وهذه الأرض التي في (الخلّة) ستقوم فيها جامعة أميركية وتقفز أسعارها للسماء، فتكتب سميرة تلك المعلومات ثم تقول له :
« هذه معلومات ممتازة، معنى ذلك أننا سنعمل مبيعات سريعة وسنربح كثيراً(119)”.
رِهام:
نموذج آخر من النساء متقدم على نموذج سميرة ، لناحية توسع ميدان عملها وتنوعه وتفلته من أي ضوابط إنسانية أو قانونية، عنيتُ به؛ نموذج رِهام التي تبحث عن كيفية تحصيل النقود، مهما كانت الطريقة.. شعارها في الحياة ؛ (أنا أولاً)، والنقود عندها هي كل شيء، وهي في عجالة من أمرها لجمعها، وتقول: «أنا أعيش لأخدم نفسي أولاً وعلى رأي أم كلثوم :» إذا متّ ظمأناً فلا نزل القطر». وقررت العمل بنصيحة ريشارد نيكلسون الذي قال لها:
«يا رِهام، يا حبيبتي؛ (تايم إز موني.. النقود طاقة كامنة كالشمس المتفجرة بالطاقة، وإذا كان المسيح قد قال الكلمة أولاً، فنحن نقول الدولار أولاً.»
أمام هذه الإغرات المادية وافقت رِهام على العمل كسكرتيرة تنفيدية لشركة دزني للألعاب والملاهي تحت إدارة رجل الأعمال الأميركي ريشارد نيكلسون،الذي طلب منها ان تعمل ليل نهار، وأن تلعب بالبيضة والحجر لتحقيق أهدافهما، ولأن عصر الرواتب قد انتهى، ولأجل تسويق عمليات بيع حصص وأسهم في مشروع دزني، جندت رِهام فريقا من الشباب الصبايا، ليعملوا معها بعمولة، وبعد أن تم بيع المشروع بالكامل، تم احتساب الأرباح، فكانت حصة معتبرة لريشارد، وحصة مرضية قبضتها رهام، أما العائد الأكبر، فقد حُوِّل إلى إحدى شركات الشواوي. وبعد ثلاثة أيام، تـم إغلاق المكتب التجاري وتصفية علاقته بالسوق، واختفى كل شيء يتعلق بالمشروع.(ص186). وعندما اتصل المشترون وسألوا حارس العمارة، أجابهم أن رتشارد قد سافر.
ووفقا لنظرية «اضرب واهرب»، عاودت رهام الكرّة مع ديفيد فريدمان الذي سجل شركة عابرة للقارات تحت اسـم (المركز العولمي للهجرة وتشغيل الشباب الحر). واستأجرت لهذا الغرض ـشقة تجارية لتكون مكتباً لاستقبال طلبات من يرغب بالهجرة إلى أمريكا أو كندا أو غيرها من الدول، مقابل مبلغ مئتين وخمسين دولار، يدفع مقدما مع طلب هجرة..استطاعت أن تجمع ما يناهز الثلاثة ملايين دولار بدل رسوم طلبات الهجرة التي لم يُنفّذ أي منها شيء، إذ كانت الوعود مجرد وعود وهمية. ولأنه كما يقول المثل (مش كل مرة بتسلم الجرّة)، تنبّه أصحاب الطلبات لهذه الخديعة وقام أحدهم بمهاجمة مكتب الشركة، وإشعال النار فيها، فتفحمت جثتا رهام وشريكها ديفيد فريدمان.
مها وغادة:
أما النموذج الآخر من نساء «الحب في زمن العولمة» فهُنّ النساء اللواتي امتهنّ بيع اللذة والمتعة لرجال الأعمال، واستغلال ضعفهم بكل أساليب الإغراء الذي يتقنونه ، ومثل هذا الصنف من النساء كان ضرورة وحاجة ماسّة لرجال الأعمال، لتسهيل أعمالهم وتمرير صفقاتهم.
ولا تخجل مها وهي عرابة النساء التي يلجأ إليها سائد الشواوي للاستفادة من خدماتها،من الزهو والتباهي بأن النساء اللواتي تقدمهن له هنّ (شهادة لله) بنات نظيفات! فتوافقها زميلتها في الكار؛ غادة بقولها:
«طبعا نظيفات، فنحن نساء على مستوى عالٍ من النظافة والجمال، نساء محترمات وبنات مجتمع راقي، فهذه مطلقة تعيش بلا زوج ، وتلك معلمة غير منسجمة مع زوجها، وأخرى تطبق نظرية تعدد الأزواج، تماما كما يطبق بعض الأزواج نظرية تعدد الزوجات، وهذه إمرأة تحتاج للنقود، واقعة تحت ضغط القرش، وتلك امرأة مثلي، تريد أن تدخل دنيا الرجال، مستمتعة بالتعُّرف عليهم، وتلك تحب ممارسة الحبكهواية، مثل هواية الرسم والنحت. وأنا أحترم فكرة أن يكون الحّب نوعا من الهواية. ص94.. نحن نستحق الُّنقود التي نحصل عليها، والرفاهية التي نترفهها، نحن نتعب ونعرق، ونحصل على نقودنا بعرق جبيننا، أو بعرق رجلينا، ليحسبوها كما يحلو لهم.ص95 .»
وختاما، نقول: إن الروائي صبحي فحماوي، استطاع أن يُقدِم لنا دروساً تثقيفية في ماهية العولمة بظاهرها وباطنها، بلغته الساحرة والساخرة أحياناً، وإن ما ورد في الرواية من أمثلة ومشاهد متخيلة حول العولمة يصلح لاعتماده كوسائل ومعلومات توضيحية للطلاب الراغبين في دراسة اقتصاديات العولمة..
وقد تميزت هذه الرواية بمنسوب كبير من المصداقية والإقناع، فقد لامست الهمّ العربي ومعضلاته، التي يبدو أنها لن تنتهي.. رواية تتيح للقارىء القيام بإسقاطات كثيرة على ما يعانيه في بلده، والذي لا يختلف كثيرا عن بقية بلدان المنطقة.
كما نجح فحماوي في تطبيق مقولة: «إن القارئ شريك للكاتب»، وهذا ما يجعلنا ننتظر نتاجه ونترقب إصداراته ليمنحنا الكثير من المعرفة ومتعة كبيرة في القراءة.