د . علي حجازي
وقف الغراب الأبقع يفحص التراب على وجهه حزناً على مدينة غزتها أسراب الجراد في الليلة قبل الماضية ، وراح يحدّق إلى الحجارة التي غطّت الساحات ، وإلى الأشجار العارية من أوراقها وأغصانها المكسرة ،وإلى الشوارع والأزقّة التي تحوّلت خرائب ،شبيهة بخرائب ميدوزا، ولمّا لفّه الغبار غشي بصره مع أغربة سود كانت تنعب إلى جانبه مشكّلة جوقة تعزف على أوتارٍ مرعبة ، وفقد القدرة على التمييز بين الجراد ونقيضه .عاد فاغمضهما ، وأخذ يتذّكر المشهد المؤلم ،مشهد المدينة التي غزتها أسراب الجراد وخرّبتها ، حيث التهمت اوراق الشجر وأغصانه ، وخرّبت الساحات ، وعاثت بمؤسسات الفكر والتعليم ، وشربت حليب الأطفال ،بعدما اقتلعت عيونهم الرانية إلى غدٍ أفضل.
يومذاك ، نعم ،في ذلك اليوم الحزيراني الحزين ،من مطلع ثمانينيّات القرن الماضي، لم ينقذ المدينة سوى ألنسورالعالية التي أراحتنا من الجراد ، وفتكت به ،فقتلت منه مقتلة عظيمة ، وأجبرت الباقي على الهرب مكسوراً، مهيض الجناح .
فتح الغراب الأبقع -الذي ينذر وجوده في الصحارى والساحات بشؤم قادم -عينيه ،ومسح الغبار العالق على شعره الأشعث وحدقتيه ، فأبصر الحقيقة المؤلمة والمحزنة في آن ، فأسراب الجراد التي حسبها نسوراً هي هي التي أكلت وجه المدينة ، وكادت تطيح بروحها. نظر إلى الأعالي فأبصر النسور التي طردت الجراد سابقاً تُحدّق من علٍ ترقب المشهد الدامي
أصغى جيداً ،بعدما أزاح الغبار عن صيواني أذنيه ، فسمع مسيّر الجراد يوصي:
بأمرٍ من ملك الجراد المنهزم بداية ألفيّةٍ ثانيةٍ أطلب إليكم التهام أخضر المدينة ويابسها.
حاول الكلام مع الأغربة السود التي كاد واحد منها يهدّد بشنق النسور ،متناسياً أنّه كان أحد مخبري ملك الجراد ، ومساعداً له على مدينته ، ورفع آخر نعيبه : أن لا سلام مع النسور ، ونعب ثالث :مدينتنا خطّ أحمر ،فعلقت الحروف في حلقه، فهمس في سرّه :
كيف لنا نحن جماعة الغربان أن نعجز عن التمييز بين جراد ونسور؟
لقد أعمانا كرهنا الشديد لجماعات النسور التي طهّرت أرضنا وساحاتنا ،وهي الآن تتوعد بالقضاء على آخر جرادة داخل هذا الوطن وخارجه ، والمؤسف هو:
أننا لم نقدّم أعتذراً، ولا نزال نكابر
14/ 6/ 2020