(من كتاب “أفكار خارج العزلة” – يصدر عام 2022)
في كلّ لحظة أنظر إلى ورائي، فالذين لا يحبّونني لا يسيرون أمامي عادة، وظلالهم تكون قبلي بمسافة بعيدة. وتختلف ظلال الناس. فظلال الخيّرين هادئة، رقيقة، وتنطق بالحكمة والرجاء. أمّا الظلال التي أصحابها يضمرون الشرّ فثقيلة، تنطق بالفجور.
أحبّ الذين لا يحبّونني، كما أمرني الناصريّ بأن أفعل. لكنّني أعترف أيضاً بجميلهم عليّ، فإنّهم مهّدوا الطريق لنجاحي، وأضاؤوا بمصابيح أنانيّتهم طريقي، وساعدوني لكي أصعد يوم شدّوا بثيابي لأنحدر وأسقط. فكم أنتِ جميلة أيّتها البغضاء عندما تبدعين! وكم أنت رائعة أيّتها النميمة عندما تصرخين بالحقّ!
يسألني بعض الفضوليّين عمّن لا يحبّونني فأقول: علّمتني الحياة أن آكل وأشرب مع الأوفياء والمتواضعين والصادقين. وكلّ واحد منهم يرفعني، ويزيدني إيماناً وثراء… وعن هؤلاء أتحدّث كلّما تذكّرتُ الخير والفضيلة.
وأحبّ الذين لا يحبّونني، لأنّي بهم اكتشفت الفرق بين أن أكون كما أريد، وأن أصير كما يريدون… وبين أن ألقي بنفسي في الحفرة المعدّة للفاشلين، وأن أصعد بفكرتي المُضيئة، فأعلّقها كواكب، وأحطّم بها أجنحة الليل…
نعم، هكذا فرحت وأفرح بمَن يتربّصون بي، ويريدون حرماني ممّا وهبتْه السماء لي… ولو استطاعوا لأحرقوا زرعي، وهدموا بيتي، وصادروا منّي لقمة العيش، لكنّني هنا… أبدع بكلّ قطرة من عرقي، قَويّاً بقوّتهم، مارداً بتمرّدهم، عنيداً بعنادهم… وسيبقى حبري والليالي شهادات صارخة على أنّ الضوء يشرق من السواد، والانتصار يأتي من التعب… ويحقّ للذي بنى المدينة أن يكون أوّل من يعيش في قصرها العالي، وله ذهب خزائنها.
أيّتها الحديقة التي تحتوي على أشجار مثمرة، وأخرى فيها الشوك والقذى. لن أقطع شجرة منك، وسأظلّ أستريح في ظلال الزيتون والتين والعنب… وكلّما رأيت غصناً بخيلاً، سأتعلّم منه كيف أكون كريماً… فأغتبط بالمعرفة، وأشتري لها أغلى الثياب، بينما يبكي الجهل على نفسه، ويضرب اليَبَاس على صدره من الضجر والخيبة.
***
(*) جميل الدويهي: مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني